Senin, 10 April 2017

JAMIUL ULUM WAL HIKAM HADIS KE 18



[الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا]
الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ
 عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَخَرَّجَهُ أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مَيْمُونٍ، عَنْ مُعَاذٍ، وَذَكَرَ عَنْ شَيْخِهِ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ أَصَحُّ. فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ وَقِيلَ فِيهِ: عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ مَيْمُونٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّى بِذَلِكَ، مُرْسَلًا، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا الْمُرْسَلَ. وَقَدْ حَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ تَصْحِيحِهِ، فَبَعِيدٌ، وَلَكِنَّ الْحَاكِمَ خَرَّجَهُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَهُوَ وَهَمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَيْمُونَ بْنَ أَبِي شَبِيبٍ، وَيُقَالُ: ابْنُ شَبِيبٍ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " شَيْئًا، وَلَا مُسْلِمٌ إِلَّا فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ حَدِيثًا عَنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَيْمُونَ بْنَ أَبِي شَبِيبٍ لَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ الْفَلَّاسُ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ " سَمِعْتُ " وَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّ أَحَدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَائِشَةَ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ، وَلَمْ يَرَ عَلِيًّا، وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَشَيْخُهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَتَّصِلُ إِلَّا بِصِحَّةِ اللُّقِيِّ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ رَأْيِ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَّى بِهَذِهِ الْوَصِيَّةَ مُعَاذًا وَأَبَا ذَرٍّ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، فَخَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، «عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أَفْشِ السَّلَامَ، وَابْذُلِ الطَّعَامَ، وَاسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ اسْتِحْيَاءَ رَجُلٍ ذِي هَيْئَةٍ مِنْ أَهْلِكَ، وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ، وَلْيَحْسُنْ خُلُقُكَ مَا اسْتَطَعْتَ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَرَادَ سَفَرًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ: اعْبُدِ اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " إِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " اسْتَقِمْ وَلْتُحْسِنْ خُلُقَكَ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، «عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ، وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ، وَلَا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا شَيْئًا وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُكَ، وَلَا تَقْبِضْ أَمَانَةً، وَلَا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً، فَاعْمَلْ حَسَنَةً، فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ» . وَخَرَّجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ اتَّقِ اللَّهَ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً، فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً " فَقَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ؟ قَالَ: " هِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ» . وَقَدْ رُوِيَتْ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ بِسِيَاقٍ مُطَوَّلٍ مِنْ وُجُوهٍ فِيهَا ضَعْفٌ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ ".
فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ وَصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ جَامِعَةٌ لِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَالتَّقْوَى وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] [النِّسَاءِ: 131] . وَأَصْلُ التَّقْوَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَخَافُهُ وَيَحْذَرُهُ وِقَايَةً تَقِيهِ مِنْهُ، فَتَقْوَى الْعَبْدِ لِرَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَخْشَاهُ مِنْ رَبِّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَسُخْطِهِ وَعِقَابِهِ وِقَايَةً تَقِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ فِعْلُ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابُ مَعَاصِيهِ. وَتَارَةً تُضَافُ التَّقْوَى إِلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] [الْمَائِدَةِ: 96] ، وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] [الْحَشْرِ: 18] ، فَإِذَا أُضِيفَتِ التَّقْوَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَالْمَعْنَى: اتَّقُوا سُخْطَهُ وَغَضَبَهُ، وَهُوَ أَعْظَمُ مَا يُتَّقَى، وَعَنْ ذَلِكَ يَنْشَأُ عِقَابُهُ الدُّنْيَوِيُّ وَالْأُخْرَوِيُّ، قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] [آلِ عِمْرَانَ: 28] ، وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلٌ أَنْ يُخْشَى وَيُهَابَ وَيُجَلَّ وَيُعَظَّمَ فِي صُدُورِ عِبَادِهِ حَتَّى يَعْبُدُوهُ وَيُطِيعُوهُ، لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَصِفَاتِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَقُوَّةِ الْبَطْشِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى، فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إِلَهًا آخَرَ، فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ» .
وَتَارَةً تُضَافُ التَّقْوَى إِلَى عِقَابِ اللَّهِ وَإِلَى مَكَانِهِ، كَالنَّارِ، أَوْ إِلَى زَمَانِهِ، كَيَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ - وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 281 - 123].
وَيَدْخُلُ فِي التَّقْوَى الْكَامِلَةِ فَعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَرُبَّمَا دَخَلَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِعْلُ الْمَنْدُوبَاتِ، وَتَرْكُ الْمَكْرُوهَاتِ، وَهِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ التَّقْوَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 1 - 4].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَّقُونَ؟ فَيَقُومُونَ فِي كَنَفٍ مِنَ الرَّحْمَنِ لَا يَحْتَجِبُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَتِرُ، قَالُوا لَهُ: مَنِ الْمُتَّقُونَ؟ قَالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ بِالْعِبَادَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ فِي التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُتَّقُونَ اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَدَّوْا مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَيْسَ تَقْوَى اللَّهِ بِصِيَامِ النَّهَارِ، وَلَا بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ، فَمَنْ رُزِقَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا، فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ. وَقَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ تَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ الْعَبْدُ حَتَّى يَتَّقِيَهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَحَتَّى يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا يَكُونُ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لِلْعِبَادِ الَّذِي يُصَيِّرُهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] ، فَلَا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ أَنْ تَفْعَلَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ أَنْ تَتَّقِيَهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَتِ التَّقْوَى بِالْمُتَّقِينَ حَتَّى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنَّمَا سُمُّوا مُتَّقِينَ، لِأَنَّهُمُ اتَّقَوْا مَا لَا يُتَّقَى. وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ: الْمُتَّقُونَ تَنَزَّهُوا عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعُوا فِي الْحَرَامِ، فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ مُتَّقِينَ. وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ " «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بِأْسٌ» ". وَحَدِيثُ: " «مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» ". وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: الْمُتَّقِي أَشَدُّ مُحَاسَبَةً لِنَفْسِهِ مِنَ الشَّرِيكِ الشَّحِيحِ لِشَرِيكِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102] ، قَالَ: أَنْ يُطَاعَ، فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ، فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ، فَلَا يُكْفَرَ. وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَشُكْرُهُ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ.
وَمَعْنَى ذِكْرِهِ فَلَا يُنْسَى: ذِكْرُ الْعَبْدِ بِقَلْبِهِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ فَيَمْتَثِلُهَا، وَلِنَوَاهِيهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَيَجْتَنِبُهَا. وَقَدْ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُ التَّقْوَى عَلَى اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسُئِلَ عَنِ التَّقْوَى، فَقَالَ: هَلْ أَخَذْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعْتَ؟ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُ الشَّوْكَ عَدَلْتُ عَنْهُ، أَوْ جَاوَزْتُهُ، أَوْ قَصَّرْتُ عَنْهُ، قَالَ: ذَاكَ التَّقْوَى. وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ فَقَالَ:
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا فَهُوَ التُّقَى
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى
وَأَصْلُ التَّقْوَى: أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ مَا يُتَّقَى ثُمَّ يَتَّقِي، قَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ تَبْتَغِيَ عِلْمَ مَا لَمْ يُعْلَمُ مِنْهَا إِلَى مَا عُلِمَ مِنْهَا. وَذَكَرَ مَعْرُوفٌ الْكَرْخِيُّ عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ، قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ مُتَّقِيًا مَنْ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي؟ ثُمَّ قَالَ مَعْرُوفٌ: إِذَا كُنْتَ لَا تُحْسِنُ تَتَّقِي أَكَلْتَ الرِّبَا، وَإِذَا كُنْتَ لَا تُحْسِنُ تَتَّقِي لَقِيَتْكَ امْرَأَةٌ فَلَمْ تَغُضَّ بَصَرَكَ، وَإِذَا كُنْتَ لَا تُحْسِنُ تَتَّقِي وَضَعْتَ سَيْفَكَ عَلَى عَاتِقِكَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: «إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي قَدِ اخْتَلَفَتْ، فَاعْمَدْ إِلَى سَيْفِكَ فَاضْرِبْ بِهِ أُحُدًا» ثُمَّ قَالَ مَعْرُوفٌ: وَمَجْلِسِي هَذَا لَعَلَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّقِيَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَمَجِيئُكُمْ مَعِي مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى هَاهُنَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّقِيَهُ، أَلَيْسَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " «إِنَّهُ فِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ مَذَلَّةٌ لِلتَّابِعِ» "؟ يَعْنِي: مَشْيَ النَّاسِ خَلْفَ الرَّجُلِ.
وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالتَّقْوَى هِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَوَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا. وَلَمَّا خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ وَصَّى النَّاسَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَبِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِأَئِمَّتِهِمْ. وَلَمَّا وَعَظَ النَّاسَ، قَالُوا لَهُ: كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ الَّذِي خَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْإِسْلَامِ» ، وَخَرَّجَهُ غَيْرُهُ وَلَفْظُهُ: قَالَ: " «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ» ". وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّهُ «سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا فَأَخَافُ أَنْ يُنْسِيَنِي أَوَّلَهُ آخِرُهُ، فَحَدِّثْنِي بِكَلِمَةٍ تَكُونُ جِمَاعًا، قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا تَعْلَمُ» . وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَوَاصَوْنَ بِهَا، كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَنْ تُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَأَنْ تَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، وَتَجْمَعُوا الْإِلْحَافَ بِالْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] . وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَعَهِدَ إِلَى عُمَرَ، دَعَاهُ، فَوَصَّاهُ بِوَصِيَّتِهِ، وَأَوَّلُ مَا قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عُمَرُ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَاهُ وَقَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ جَزَاهُ، وَمَنْ شَكَرَهُ زَادَهُ، وَاجْعَلِ التَّقْوَى نُصْبَ عَيْنَيْكَ وَجَلَاءَ قَلْبِكَ. وَاسْتَعْمَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَقَالَ لَهُ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي لَابُدَّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ، وَلَا مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ وَهُوَ يَمْلِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى رَجُلٍ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهَا، وَلَا يَرْحَمُ إِلَّا أَهْلَهَا، وَلَا يُثِيبُ إِلَّا عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْوَاعِظِينَ بِهَا كَثِيرٌ، وَالْعَامِلِينَ بِهَا قَلِيلٌ، جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَلَمَّا وُلِّىَ خَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَلَفٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ خَلَفٌ. وَقَالَ رَجُلٌ لِيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالْإِحْسَانِ. فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يُرِيدُ الْحَجَّ: أَوْصِنِي، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، فَلَا وَحْشَةَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ عِنْدَ مَوْتِهِ: أَوْصِنَا، فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِخَاتِمَةِ سُورَةِ النَّحْلِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] . وَكَتَبَ رَجُلٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَخٍ لَهُ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا أَكْرَمُ مَا أَسْرَرْتَ، وَأَزْيَنُ مَا أَظْهَرْتَ، وَأَفْضَلُ مَا ادَّخَرْتَ، أَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ عَلَيْهَا، وَأَوْجَبَ لَنَا وَلَكَ ثَوَابَهَا. وَكَتَبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَى أَخٍ لَهُ: أُوصِيكَ وَأَنْفُسَنَا، بِالتَّقْوَى فَإِنَّهَا خَيْرُ زَادِ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَاجْعَلْهَا إِلَى كُلِّ خَيْرٍ سَبِيلَكَ، وَمِنْ كُلِّ شَرٍّ مَهْرَبَكَ، فَقَدْ تَوَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِهَا بِالنَّجَاةِ مِمَّا يَحْذَرُونَ، وَالرِّزْقِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ. وَقَالَ شُعْبَةُ: كُنْتُ إِذَا أَرَدْتُ الْخُرُوجَ، قُلْتُ لِلْحَكَمِ: أَلَكَ حَاجَةٌ، فَقَالَ: أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ.» وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى» . وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ " لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ» . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ» مُرَادُهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَحَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَى سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ» ، «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ» وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هِيَ مِنَ الْمُنْجِيَاتِ.
وَقَدْ سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ «عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ اسْتِحْيَاءَ رَجُلٍ ذِي هَيْبَةٍ مِنْ أَهْلِكَ» وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِخَشْيَةِ اللَّهِ فِي السِّرِّ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ حَيْثُ كَانَ، وَأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَاسْتَحْضَرَ ذَلِكَ فِي خَلَوَاتِهِ، أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ تَرْكَ الْمَعَاصِيَ فِي السِّرِّ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْإِشَارَةُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: زَهَّدَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ فِي الْحَرَامِ زُهْدَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ فِي الْخَلْوَةِ، فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ، فَتَرَكَهُ مِنْ خَشْيَتِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ ثَلَاثَةٌ: الْجُودُ مِنْ قِلَّةٍ، وَالْوَرَعُ فِي خَلْوَةٍ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ يُرْجَى أَوْ يُخَافُ. وَكَتَبَ ابْنُ السِّمَاكِ الْوَاعِظُ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ، أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ نَجِيُّكَ فِي سَرِيرَتِكَ وَرَقِيبُكَ فِي عَلَانِيَتِكَ، فَاجْعَلِ اللَّهَ مِنْ بَالِكَ عَلَى كُلِّ حَالِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَخَفِ اللَّهَ بِقَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَقُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ بِعَيْنِهِ لَيْسَ تَخْرُجُ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى سُلْطَانِ غَيْرِهِ وَلَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلْيَعْظُمْ مِنْهُ حَذَرُكَ، وَلْيَكْثُرْ مِنْهُ وَجَلُكَ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ أَبُو الْجِلْدِ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: قُلْ لِقَوْمِكَ: مَا بَالُكُمْ تَسْتُرُونَ الذُّنُوبَ مِنْ خَلْقِي، وَتُظْهِرُونَهَا لِي؛ إِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنِّي لَا أَرَاكُمْ، فَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ بِي، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنِّي أَرَاكُمْ فَلِمَ جَعَلْتُمُونِي أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكُمْ؟ وَكَانَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ يَقُولُ: خَفِ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، وَاسْتَحْيِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِظْنِي، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: أَتُرَاكَ تَرْحَمُ مَنْ لَمْ تُقِرَّ عَيْنَيْهِ بِمَعْصِيَتِكَ حَتَّى عَلِمَ أَنْ لَا عَيْنَ تَرَاهُ غَيْرَكَ؟
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ابْنَ آدَمَ إِنْ كُنْتَ حَيْثُ رَكِبْتَ الْمَعْصِيَةَ لَمْ تَصْفُ لَكَ مِنْ عَيْنٍ نَاظِرَةٍ إِلَيْكَ، فَلَمَّا خَلَوْتَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ صَفَتْ لَكَ مَعْصِيَتُهُ، وَلَمْ تَسْتَحْيِ مِنْهُ حَيَاءَكَ مِنْ بَعْضِ خَلْقِهِ، مَا أَنْتَ إِلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ، فَقَدْ كَفَرْتَ، وَإِنْ كُنْتَ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَرَاكَ فَلَمْ يَمْنَعْكَ مِنْهُ مَا مَنَعَكَ مِنْ أَضْعَفِ خَلْقِهِ لَقَدِ اجْتَرَأْتَ عَلَيْهِ. دَخَلَ بَعْضُهُمْ غَيْضَةً ذَاتَ شَجَرٍ، فَقَالَ: لَوْ خَلَوْتُ هَاهُنَا بِمَعْصِيَةِ مَنْ كَانَ يَرَانِي؟ فَسَمِعَ هَاتِفًا بِصَوْتٍ مَلَأَ الْغَيْضَةَ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] . رَاوَدَ بَعْضُهُمْ أَعْرَابِيَّةً، وَقَالَ لَهَا: مَا يَرَانَا إِلَّا الْكَوَاكِبُ، قَالَتْ: أَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟ . رَأَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ رَجُلًا وَاقِفًا مَعَ امْرَأَةٍ يُكَلِّمُهَا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَرَاكُمَا سَتَرَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمَا. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: الْمُرَاقَبَةُ عِلْمُ الْقَلْبِ بِقُرْبِ الرَّبِّ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ بِمَ يُسْتَعَانُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ، قَالَ بِعِلْمِكَ أَنَّ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ أَسْبَقُ مِنْ نَظَرِكَ إِلَى مَا تَنْظُرُهُ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يُنْشِدُ:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً ... وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
وَكَانَ ابْنُ السَّمَّاكِ يُنْشِدُ
يَا مُدْمِنَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحْيِي ... وَاللَّهُ فِي الْخَلْوَةِ ثَانِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ ... وَسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَّى مُعَاذًا بِتَقْوَى اللَّهِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، أَرْشَدَهُ إِلَى مَا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنَ اللَّهِ كَمَا يَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ ذِي هَيْبَةٍ مِنْ قَوْمِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَسْتَشْعِرَ دَائِمًا بِقَلْبِهِ قُرْبَ اللَّهِ مِنْهُ وَاطِّلَاعَهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَحْيِي مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ. وَقَدِ امْتَثَلَ مُعَاذٌ مَا وَصَّاهُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ بَعَثَهُ عَلَى عَمَلٍ، فَقَدِمَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، فَعَاتَبَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: كَانَ مَعِي ضَاغِطٌ، يَعْنِي: مَنْ يُضَيِّقُ عَلَيَّ وَيَمْنَعُنِي مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُعَاذٌ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَظَنَّتِ امْرَأَتُهُ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ مَعَهُ رَقِيبًا، فَقَامَتْ تَشْكُوهُ إِلَى النَّاسِ. وَمَنْ صَارَ لَهُ هَذَا الْمَقَامُ حَالًا دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، فَهُوَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ، وَمِنَ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَتَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ هُوَ عَلَامَةُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي إِلْقَاءِ اللَّهِ لِصَاحِبِهِ الثَّنَاءَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا عَلَانِيَةً إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا» " رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ تَلْعَنَهُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ، فَيُلْقِي اللَّهُ لَهُ الْبُغْضَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الْعَبْدَ لِيُذْنِبُ الذَّنْبَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، ثُمَّ يَجِيءُ إِلَى إِخْوَانِهِ، فَيَرَوْنَ أَثَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْحَقِّ الْمُجَازِي بِذَرَّاتِ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَلَا يَضِيعُ عِنْدَهُ عَمَلُ عَامِلٍ، وَلَا يَنْفَعُ مِنْ قُدْرَتِهِ حِجَابٌ وَلَا اسْتِتَارٌ، فَالسَّعِيدُ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَمَنِ الْتَمَسَ مَحَامِدَ النَّاسِ بِسُخْطِ اللَّهِ، عَادَ حَامِدُهُ مِنَ النَّاسِ ذَامًّا لَهُ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: إِنَّ الْخَاسِرَ مَنْ أَبْدَى لِلنَّاسِ صَالِحَ عَمَلِهِ، وَبَارَزَ بِالْقَبِيحِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا رُوِيَ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ السَّائِحِ قَالَ: كَانَ حَبِيبٌ أَبُو مُحَمَّدٍ تَاجِرًا يَكْرِي الدَّرَاهِمَ، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا هُوَ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ جَاءَ آكِلُ الرِّبَا، فَنَكَّسَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: يَا رَبِّ، أَفْشَيْتَ سِرِّي إِلَى الصِّبْيَانِ، فَرَجَعَ فَجَمَعَ مَالَهُ كُلَّهُ، وَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي أَسِيرٌ، وَإِنِّي قَدِ اشْتَرَيْتُ نَفْسِي مِنْكَ بِهَذَا الْمَالِ فَأَعْتِقْنِي، فَلَمَّا أَصْبَحَ تَصَدَّقَ بِالْمَالِ كُلِّهِ وَأَخَذَ فِي الْعِبَادَةِ، ثُمَّ مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِأُولَئِكَ الصِّبْيَانِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اسْكُتُوا فَقَدْ جَاءَ حَبِيبٌ الْعَابِدُ، فَبَكَى وَقَالَ: يَا رَبِّ أَنْتَ تَذُمُّ مَرَّةً وَتَحْمَدُ مَرَّةً، وَكُلُّهُ مِنْ عِنْدِكَ.

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» " لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا بِالتَّقْوَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ مَعَ أَنَّهُ لَابُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ أَحْيَانًا تَفْرِيطٌ فِي التَّقْوَى، إِمَّا بِتَرْكِ بَعْضِ الْمَأْمُورَاتِ، أَوْ بِارْتِكَابِ بَعْضِ الْمَحْظُورَاتِ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يَمْحُو بِهِ هَذِهِ
السَّيِّئَةَ وَهُوَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِالْحَسَنَةِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَدَعَاهُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: " بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً» . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُتَّقِينَ فِي كِتَابِهِ بِمِثْلِ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 133 - 136] . فَوَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِمُعَامَلَةِ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالْإِنْفَاقِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، فَجَمَعَ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِبَذْلِ النَّدَى، وَاحْتِمَالِ الْأَذَى، وَهَذَا هُوَ غَايَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ الَّذِي وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ: {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَيْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ قَدْ يَقَعُ مِنْهُمْ أَحْيَانًا كَبَائِرُ وَهِيَ الْفَوَاحِشُ، وَصَغَائِرُ وَهِيَ ظُلْمُ النَّفْسِ، لَكِنَّهُمْ لَا يُصِرُّونَ عَلَيْهَا، بَلْ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَقِبَ وُقُوعِهَا، فَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَالتَّوْبَةُ: هِيَ تَرْكُ الْإِصْرَارِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135] أَيْ: ذَكَرُوا عَظَمَتَهُ وَشِدَّةَ بَطْشِهِ وَانْتِقَامِهِ، وَمَا تَوَعَّدَ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْعِقَابِ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ لَهُمُ الرُّجُوعَ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِغْفَارَ وَتَرْكَ الْإِصْرَارِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] . وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ اللَّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: - فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» يَعْنِي مَا دَامَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ كُلَّمَا أَذْنَبَ ذَنْبًا اسْتَغْفَرْ مِنْهُ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدُنَا يُذْنِبُ، قَالَ: " يُكْتَبُ عَلَيْهِ " قَالَ: ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ، قَالَ: " يُغْفَرُ لَهُ وَيُتَابُ عَلَيْهِ " قَالَ: فَيَعُودُ فَيُذْنِبُ، قَالَ: " يُكْتَبُ عَلَيْهِ " قَالَ: ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ وَيَتُوبُ، قَالَ: " يُغْفَرُ لَهُ، وَيُتَابُ عَلَيْهِ، وَلَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «جَاءَ حَبِيبُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ مِقْرَافٌ لِلذُّنُوبِ، قَالَ: " فَتُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "، قَالَ: أَتُوبُ، ثُمَّ أَعُودُ، قَالَ: " فَكُلَّمَا أَذْنَبْتَ، فَتُبْ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا تَكْثُرُ ذُنُوبِي، قَالَ: " فَعَفْوُ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ ذُنُوبِكَ يَا حَبِيبُ بْنَ الْحَارِثِ» وَخَرَّجَهُ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَنْ ذَكَرَ خَطِيئَةً عَمِلَهَا، فَوَجِلَ قَلْبُهُ مِنْهَا، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، لَمْ يَحْبِسْهَا شَيْءٌ حَتَّى يَمْحَاهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: خِيَارُكُمْ كُلُّ مُفَتَّنٍ تَوَّابٍ، قِيلَ: فَإِذَا عَادَ؟ قَالَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ، قِيلَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ، قِيلَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ، قِيلَ حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَحْسُورُ. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» "
وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: أَلَا يَسْتَحْيِي أَحَدُنَا مِنْ رَبِّهِ يَسْتَغْفِرُ مِنْ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ يَعُودُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ، ثُمَّ يَعُودُ، فَقَالَ: وَدَّ الشَّيْطَانُ لَوْ ظَفِرَ مِنْكُمْ بِهَذِهِ، فَلَا تَمَلُّوا الِاسْتِغْفَارَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَرَى هَذَا إِلَّا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي: أَنَّ الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا أَذْنَبَ تَابَ، وَقَدْ رُوِيَ " «الْمُؤْمِنُ مُفَتَّنٌ تَوَّابٌ» " وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مَرْفُوعًا " «الْمُؤْمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ فَسَعِيدٌ مَنْ هَلَكَ عَلَى رَقْعِهِ» ". وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خُطْبَتِهِ: مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ أَسَاءَ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَلْيَتُبْ، فَإِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ أَقْوَامٍ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوا أَعْمَالًا وَظَّفَهَا اللَّهُ فِي رِقَابِهِمْ، وَكَتَبَهَا عَلَيْهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَلَمَّ بِذَنْبٍ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلْيَتُبْ، فَإِنْ عَادَ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلْيَتُبْ، فَإِنْ عَادَ فَلْيَسْتَغْفِرْ وَلْيَتُبْ، فَإِنَّمَا هِيَ خَطَايَا مُطَوَّقَةٌ فِي أَعْنَاقِ الرِّجَالِ، وَإِنَّ الْهَلَاكَ كُلَّ الْهَلَاكِ فِي الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعَبْدَ لَابُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا، فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ.» وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعَبْدِ مَخْرَجًا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمَحَاهُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَإِنْ فَعَلَ، فَقَدْ تَخَلَّصَ مِنْ شَرِّ الذُّنُوبِ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ، هَلَكَ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» وَفُسِّرَ أَقْمَاعُ الْقَوْلِ بِمَنْ كَانَتْ أُذُنَاهُ كَالْقَمْعِ لِمَا يَسْمَعُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَإِذَا دَخَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أُذُنِهِ خَرَجَ فِي الْأُخْرَى، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ» " قَدْ يُرَادُ بِالْحَسَنَةِ التَّوْبَةُ مِنْ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ مَرَاسِيلِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: " «يَا مُعَاذُ اتَّقِ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاعْمَلْ بِقُوَّتِكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَطَقْتَ، وَاذْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ كُلِّ شَجَرَةٍ وَحَجَرٍ، وَإِنْ أَحْدَثْتَ ذَنْبًا، فَأَحْدِثْ عِنْدَهُ تَوْبَةً، إِنْ سِرًّا فَسِرٌّ وَإِنْ عَلَانِيَةً فَعَلَانِيَةٌ» " وَخَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِمَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْ مُعَاذٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ سَلْمَانُ: إِذَا أَسَأْتَ سَيِّئَةً فِي سَرِيرَةٍ، فَأَحْسِنْ حَسَنَةً فِي سَرِيرَةٍ، وَإِذَا أَسَأْتَ سَيِّئَةً فِي عَلَانِيَةٍ، فَأَحْسِنْ حَسَنَةً فِي عَلَانِيَةٍ، لِكَيْ تَكُونَ هَذِهِ بِهَذِهِ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَسَنَةِ التَّوْبَةَ أَوْ أَعَمَّ مِنْهَا. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ ذَنْبُهُ أَوْ يُتَابُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 17] ، وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119] وَقَوْلِهِ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وَقَوْلِهِ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] [طه: 82] وَقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60] وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] الْآيَتَيْنِ. قَالَ عَبْدُ الرَّازَّقِ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ بَلَغَنِي أَنَّ إِبْلِيسَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] الْآيَةَ، بَكَى وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ خَيْرٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: أَعْطَانَا اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ مَكَانَ مَا جَعَلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي كَفَّارَاتِ ذُنُوبِهِمْ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَتْ كَفَّارَاتُنَا كَكَفَّارَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اللَّهُمَّ لَا نَبْغِيهَا - ثَلَاثًا - مَا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمُ الْخَطِيئَةَ، وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِهِ وَكَفَّارَتَهَا، فَإِنْ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْهَا كَانَتْ خِزْيًا فِي الْآخِرَةِ، فَمَا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] » ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، قَالَ: هُوَ سَعَةُ الْإِسْلَامِ، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَةِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ النُّصُوصِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَاجْتَمَعَتْ شُرُوطُ التَّوْبَةِ فِي حَقِّهِ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِقَبُولِ اللَّهِ تَوْبَتَهُ، كَمَا يُقْطَعُ بِقَبُولِ إِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ إِسْلَامًا صَحِيحًا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا يُقْطَعُ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، بَلْ يُرْجَى وَصَاحِبُهَا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَإِنْ تَابَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فَجَعَلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا تَحْتَ مَشِيئَتِهِ، وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] ، وَبِقَوْلِهِ: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67] ، وَقَوْلِهِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] ، وَقَوْلِهِ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِ، لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ يَقْتَضِي النَّدَمَ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا أَطْمَعَ، لَمْ يُقْطَعْ مِنْ رَجَائِهِ الْمَطْمَعُ، وَمِنْ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ " عَسَى " مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، نَقَلَهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ. وَقَدْ وَرَدَ جَزَاءُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِلَفْظِ: " عَسَى " أَيْضًا، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]  ، فَإِنَّ التَّائِبَ مِمَّنْ شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْحَسَنَةِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ» " مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّوْبَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ هَذِهِ الْآيَةُ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ ثُمَّ يُصَلِّي، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا يُحْسِنُ فِيهِمَا الرُّكُوعَ وَالْخُشُوعَ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ - أَوْ قَالَ - حَدَّكَ» وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَفِي حَدِيثِهِ قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ خَطِيئَتِكَ كَمَا وَلَدَتْكَ أُمُّكَ فَلَا تَعُدْ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]  » .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُوَا اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عُثْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ» . وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَإِنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» . وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ: أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» ، وَقَالَ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالَّتِي بَعْدَهُ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ، ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى، فَانْفَكَّتْ أُخْرَى حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ» . وَمِمَّا يُكَفِّرُ الْخَطَايَا ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " أَمِنَ الْحَسَنَاتِ هِيَ؟ قَالَ: " مِنْ أَحْسَنِ الْحَسَنَاتِ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَفِيهِمَا عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَكِتَابِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا تَتْرُكُ ذَنْبًا، وَلَا يَسْبِقُهَا عَمَلٌ» . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ بِشَجَرَةٍ يَابِسَةِ الْوَرَقِ، فَضَرَبَهَا بِعَصَاهُ، فَتَنَاثَرَ الْوَرَقُ، فَقَالَ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَتُسَاقِطُ مِنْ ذُنُوبِ الْعَبْدِ كَمَا يَتَسَاقَطُ وَرَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» . وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ تَنْفُضُ الْخَطَايَا كَمَا تَنْفُضُ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا. وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ رَجُلٍ لَا يَتَحَاشَى مِنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا أَنَّ لِسَانَهُ لَا يَفْتُرُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَوْنٌ حَسَنٌ. وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ اكْتَسَبَ مَالًا مِنْ شُبْهَةٍ: صَلَاتُهُ وَتَسْبِيحُهُ يَحُطُّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنْ صَلَّى وَسَبَّحَ يُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ، فَأَرْجُو، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: الْبُكَاءُ عَلَى الْخَطِيئَةِ يَحُطُّ الْخَطَايَا كَمَا يَحُطُّ الرِّيحُ الْوَرَقَ الْيَابِسَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، كَفَّرَ بِهِ عَشَرَةَ مَجَالِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْبَاطِلِ. وَقَالَ شُوَيْسٌ الْعَدَوِيُّ - وَكَانَ مِنْ قُدَمَاءِ التَّابِعِينَ - إِنَّ صَاحِبَ الْيَمِينِ أَمِيرٌ - أَوْ قَالَ: أَمِينٌ - عَلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ، فَإِذَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ سَيِّئَةً، فَأَرَادَ صَاحِبُ الشِّمَالِ أَنْ يَكْتُبَهَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ: لَا تَعْجَلْ لَعَلَّهُ يَعْمَلُ حَسَنَةً، فَإِنْ
عَمِلَ حَسَنَةً، أَلْقَى وَاحِدَةً بِوَاحِدَةٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ، فَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: يَا وَيْلَهُ مَنْ يُدْرِكْ تَضْعِيفَ ابْنِ آدَمَ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا نَامَ ابْنُ آدَمَ قَالَ الْمَلِكُ لِلشَّيْطَانِ: أَعْطِنِي صَحِيفَتَكَ، فَيُعْطِيهِ إِيَّاهَا، فَمَا وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ مِنْ حَسَنَةٍ، مَحَى بِهَا عَشْرَ سَيِّئَاتٍ مِنْ صَحِيفَةِ الشَّيْطَانِ، وَكَتَبَهُنَّ حَسَنَاتٍ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُكَبِّرْ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً وَيَحْمَدْ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً، وَيُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، فَتِلْكَ مِائَةٌ» وَهَذَا غَرِيبٌ مُنْكَرٌ. وَرَوَى وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: وَدِدْتُ أَنِّي صُولِحْتُ عَلَى أَنْ أَعْمَلَ كُلَّ يَوْمٍ تِسْعَ خَطِيئَاتٍ وَحَسَنَةً. وَهَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ يُمْحَى بِهَا التِّسْعُ خَطِيئَاتٍ، وَيُفَضَّلُ لَهُ ضِعْفٌ وَاحِدٌ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ، فَيَكْتَفِي بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: هَلْ تُكَفِّرُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ أَمْ لَا تُكَفِّرُ سِوَى الصَّغَائِرِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تُكَفِّرْ سِوَى الصَّغَائِرِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فِي الْوُضُوءِ: إِنَّهُ يُكَفِّرُ الْجِرَاحَاتِ الصِّغَارَ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْمَسَاجِدِ يُكَفِّرُ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَالصَّلَاةُ تُكَفِّرُ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ. خَرَّجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ. وَأَمَّا الْكَبَائِرُ، فَلَابُدَّ لَهَا مِنَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِالتَّوْبَةِ، وَجَعَلَ مَنْ
لَمْ يَتُبْ ظَالِمًا، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ، وَالْفَرَائِضُ لَا تُؤَدَّى إِلَّا بِنِيَّةٍ وَقَصْدٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْكَبَائِرُ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَأَدَاءِ بَقِيَّةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كُفِّرَتِ الْكَبَائِرُ بِفِعْلِ الْفَرَائِضِ، لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ ذَنْبٌ يَدْخُلُ بِهِ النَّارَ إِذَا أَتَى بِالْفَرَائِضِ، وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ " التَّمْهِيدِ " وَحَكَى إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُكَفِّرُهَا هَذِهِ الْفَرَائِضُ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا - عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ - أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ شَرْطٌ لِتَكْفِيرِ هَذِهِ الْفَرَائِضِ لِلصَّغَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تُجْتَنَبْ، لَمْ تُكَفِّرْ هَذِهِ الْفَرَائِضُ شَيْئًا بِالْكُلِّيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ مُطْلَقًا، وَلَا تُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَإِنْ وُجِدَتْ، لَكِنْ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ، وَحَكَاهُ عَنِ الْحُذَّاقِ. وَقَوْلُهُ: بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ عَلَيْهَا، صَارَتْ كَبِيرَةً، فَلَمْ تُكَفِّرْهَا الْأَعْمَالُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي حَكَاهُ غَرِيبٌ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِثْلُهُ.
فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عُثْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ سَلْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَتَطَهَّرُ الرَّجُلُ - يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ - فَيُحْسِنُ طَهُورَهُ، ثُمَّ يَأْتِي الْجُمُعَةَ فَيُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ، إِلَّا كَانَ كَفَّارَةَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا اجْتُنِبَتِ الْمَقْتَلَةُ» . وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَاهُ أَيْضًا. وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ سَاعَةً وَمِنْ آخِرِ النَّهَارِ سَاعَةً، أَغْفِرُ لَكَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، إِلَّا الْكَبَائِرَ، أَوْ تَتُوبُ مِنْهَا» ".
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ. وَقَالَ سَلْمَانُ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّهُنَّ كَفَّارَاتٌ لِهَذِهِ الْجِرَاحِ مَا لَمْ تُصِبِ الْمَقْتَلَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِرَجُلٍ: أَتَخَافُ النَّارَ أَنْ تَدْخُلَهَا، وَتُحِبُّ الْجَنَّةَ أَنْ تَدْخُلَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ بِرَّ أُمَّكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلَامَ وَأَطْعَمْتَهَا الطَّعَامَ، لَتَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مَا اجْتَنَبْتَ الْمُوجِبَاتِ وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمَغْفِرَةَ لِمَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ وَسَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا» ". وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ، وَمِنْهُمُ ابْنُ حَزْمِ الظَّاهِرِيُّ، وَإِيَّاهُ عَنَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " التَّمْهِيدِ " بِالرَّدِّ عَلَيْهِ وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ، لَوْلَا قَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَخَشِيتُ أَنْ يَغْتَرَّ بِهِ جَاهِلٌ، فَيَنْهَمِكَ فِي الْمُوبِقَاتِ، اتِّكَالًا عَلَى أَنَّهَا تُكَفِّرُهَا الصَّلَوَاتُ دُونَ النَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، وَاللَّهَ نَسْأَلُ الْعِصْمَةَ وَالتَّوْفِيقَ. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الْوُضُوءِ وَنَحْوِهِ، وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِي قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قَالَ: يُرْجَى لِمَنْ قَامَهَا أَنْ يُغْفَرَ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا. فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُمْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِفَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْكَبَائِرِ تُغْفَرُ لَهُ الْكَبَائِرُ قَطْعًا، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ بُطْلَانُهُ، وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» " يَعْنِي: بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ، وَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْإِصْرَارَ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَحَافَظَ عَلَى الْفَرَائِضِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَلَا نَدَمٍ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ، كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا بِذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] وَقَالَ: السَّيِّئَاتُ تَشْمَلُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ، وَكَمَا أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا نِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ الْكَبَائِرُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ صَارَ هَذَا مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّهُ فَعَلَ الْفَرَائِضَ، وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ، فَهَذَا الْقَوْلُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجُمْلَةِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُكَفَّرُ بِدُونِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ عَلَى الْعِبَادِ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وَقَدْ فَسَّرَتِ الصَّحَابَةُ كَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ التَّوْبَةَ بِالنَّدَمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ فِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ لَا يُعْلَمُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا، وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ لِلْمُتَّقِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29]
، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التغابن: 9] ، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] ، فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ خِصَالَ التَّقْوَى، وَلَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، فَمَنْ لَمْ يَتُبْ، فَهُوَ ظَالِمٌ، غَيْرُ مُتَّقٍ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ خِصَالَ التَّقْوَى الَّتِي يَغْفِرُ لِأَهْلِهَا وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، فَذَكَرَ مِنْهَا الِاسْتِغْفَارَ، وَعَدَمَ الْإِصْرَارِ، فَلَمْ يَضْمَنْ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ وَمَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ إِلَّا لِمَنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُكَفَّرُ بِدُونِ التَّوْبَةِ مِنْهَا، أَوِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْآيَةَ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ بِهِ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «مَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ» ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْحَدَّ يَكُونُ كَفَّارَةً لِأَهْلِهِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَقَوْلُهُ: " فَعُوقِبَ بِهِ " يَعُمُّ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ، وَهِيَ الْحُدُودُ الْمُقَدَّرَةُ أَوْ غَيْرُ الْمُقَدَّرَةِ، كَالتَّعْزِيرَاتِ، وَيَشْمَلُ الْعُقُوبَاتِ الْقَدَرِيَّةَ، كَالْمَصَائِبِ وَالْأَسْقَامِ وَالْآلَامِ، فَإِنَّهُ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصِيبُ الْمُسْلِمُ نَصَبٌ وَلَا وَصَبٌ
وَلَا هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا خَطَايَاهُ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ لِمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا بَيْنَ النَّاسِ، وَرَجَّحَ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِمُجَرَّدِهِ كَفَّارَةٌ، وَوَهَّنَ الْقَوْلَ بِخِلَافِ ذَلِكَ جِدًّا. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَصَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ، وَلَابُدَّ مَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَرَجَّحَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِي " تَفْسِيرَيْهِمَا "، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ
الظَّاهِرِيِّ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ: " «لَا أَدْرِي: الْحُدُودُ طِهَارَةٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا؟» " فَقَدْ خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ: لَا يَثْبُتُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، وَغَلَطَ عَبْدُ الرَّازَّقِ فَوَصَلَهُ، قَالَ: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ. وَمِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ قَالَ: الْحَدُّ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 33 - 34] وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ لَهُمْ عُقُوبَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمَا، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ " مَنْ تَابَ " فَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا خَاصَّةً، فَإِنَّ عُقُوبَةَ الْآخِرَةِ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَبَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» " صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْكَبَائِرَ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِهَا، كَانَتْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْفَرَائِضِ لَا تُكَفِّرُهَا وَلَا تَمْحُوهَا، فَإِنَّ عُمُومَ الْمُسْلِمِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى الْفَرَائِضِ، لَا سِيَّمَا مَنْ بَايَعَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ وَقَدْ تَابَ عَنْهَا بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَغَفَرَ لَهُ، فَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَتُبْ دَاخِلًا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. وَأَيْضًا، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُكَفِّرُهَا الْأَعْمَالُ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْكَبَائِرِ فِي الدُّنْيَا كَفَّارَةً وَاجِبَةً، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْكَفَّارَةَ لِلصَّغَائِرِ كَكَفَّارَةِ وَطْءِ الْمُظَاهِرِ، وَوَطْءِ الْمَرْأَةِ فِي الْحَيْضِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَكَفَّارَةُ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، أَوِ ارْتِكَابِ بَعْضِ مَحْظُورَاتِهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ: هَدْيٌ، وَعِتْقٌ، وَصَدَقَةٌ، وَصِيَامٌ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ الْقَاتِلُ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ اسْتِحْبَابًا، كَمَا فِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّهُمْ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَهُمْ قَدْ أَوْجَبَ، فَقَالَ " «اعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يُعْتِقْهُ اللَّهُ بِهَا مِنَ النَّارِ» " وَمَعْنَى أَوْجَبَ: عَمِلَ عَمَلًا يَجِبُ لَهُ بِهِ النَّارُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَتَلَ قَتِيلًا. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ عَبْدًا لَهُ، فَأَعْتَقَهُ وَقَالَ: لَيْسَ لِي فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ هَذَا - وَأَخَذَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ - إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ، أَوْ ضَرَبَهُ، فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يَعْتِقَهُ» ". فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَجَامِعُ فِي رَمَضَانَ يُؤْمَرُ بِالْكَفَّارَةِ، وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ، قِيلَ: لَيْسَتِ الْكَفَّارَةُ لِلْفِطْرِ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا، وَإِنَّمَا هِيَ لِهَتْكِ حُرْمَةِ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مُفْطِرًا فِطْرًا لَا يَجُوزُ لَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، ثُمَّ جَامَعَ، لَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَكْفِيرَ الْوَاجِبَاتِ مُخْتَصٌّ بِالصَّغَائِرِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ، إِذْ قَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: " فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ " قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ يَقْتَضِي رَفْعَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " فِتْنَةُ الرَّجُلِ " فَذَكَرَهُ، وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي رَفْعِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ عُمَرَ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: «أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَتَرَكَهُ حَتَّى صَلَّى، ثُمَّ قَالَ لَهُ: " إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ» ، فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى مَحَارِمُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] ، وَقَوْلِهِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] ، وَقَوْلِهِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13]
الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] . وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَرْبِ مَثَلِ الْإِسْلَامِ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَى جَنْبَيْهِ سُورَانِ، قَالَ: " السُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ» . وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ بِتَمَامِهِ. فَكُلُّ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَقَدْ أَصَابَ حُدُودَهُ، وَرَكِبَهَا، وَتَعَدَّاهَا وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَهُ كَبِيرَةً، فَهَذَا الرَّجُلُ جَاءَ نَادِمًا تَائِبًا، وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَالتَّوْبَةُ تُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَقَدْ رُوِيَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ تُكَفَّرُ بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: " هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ " فَهَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَبِرَّهَا» ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، لَكِنْ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلًا، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ مِنَ الْمَوْصُولِ، وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: قَتَلْتُ نَفْسًا، قَالَ: أُمُّكَ حَيَّةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَبُوكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبِرَّهُ وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: لَوْ كَانَتْ أُمُّهُ حَيَّةً فَبَرَّهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، رَجَوْتُ أَنْ لَا تَطْعَمَهُ النَّارُ أَبَدًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ أَيْضًا.
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي عَمِلَتْ بِالسِّحْرِ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَقَدِمَتِ الْمَدِينَةَ تَسْأَلُ عَنْ تَوْبَتِهَا، فَوَجَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تُوُفِّيَ، فَقَالَ لَهَا أَصْحَابُهُ: لَوْ كَانَ أَبَوَاكَ حَيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَا يَكْفِيَانِكَ. خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: فِيهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حِدْثَانَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ بِرَّ الْأَبَوَيْنِ الْوَالِدَيْنِ يَكْفِيَانِهَا. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةٌ لِلْكَبَائِرِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي حَمْلِ الْجَنَائِزِ أَنَّهُ يُحْبِطُ الْكَبَائِرَ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ وُجُوهٍ لَا تَصِحُّ. وَقَدْ صَحَّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: يَا بَنِيَّ، اذْكُرُوا صَاحِبَ الرَّغِيفِ: كَانَ رَجُلٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ أُرَاهُ سَبْعِينَ سَنَةً، فَشَبَّهَ الشَّيْطَانُ فِي عَيْنِهِ امْرَأَةً، فَكَانَ مَعَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ، ثُمَّ كُشِفَ عَنِ الرَّجُلِ غِطَاؤُهُ، فَخَرَجَ تَائِبًا، ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّهُ بَاتَ بَيْنَ مَسَاكِينَ، فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِمْ بِرَغِيفٍ
رَغِيفٍ، فَأَعْطَوْهُ رَغِيفًا، فَفَقَدَهُ صَاحِبُهُ الَّذِي كَانَ يُعْطَاهُ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ، أَعْطَاهُ الرَّغِيفَ وَأَصْبَحَ مَيِّتًا، فَوُزِنَتِ السَّبْعُونَ سَنَةً بِالسَّبْعِ لَيَالٍ، فَرَجَحَتِ اللَّيَالِي وَوُزِنَ الرَّغِيفُ بِالسَّبْعِ لَيَالٍ، فَرَجَحَ الرَّغِيفُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِ " الْبِرِّ وَالصِّلَةِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: عَبَدَ اللَّهَ رَجُلٌ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ أَصَابَ فَاحِشَةً، فَأَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ زَمَانَةٌ وَأُقْعِدَ، فَرَأَى رَجُلًا يَتَصَدَّقُ عَلَى مَسَاكِينَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ رَغِيفًا، فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ عَمَلَ سَبْعِينَ سَنَةً. وَهَذِهِ كُلُّهَا لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى تَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ فِيهَا كَانَ نَادِمًا تَائِبًا مِنْ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ عَمَلٍ صَالِحٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ حَتَّى يَمْحُوَ بِهِ أَثَرَ الذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَطَ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ بِهَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ، كَقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60] ، وَقَوْلِهِ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه: 82] وَقَوْلِهِ: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67] ، وَفِي هَذَا مُتَعَلَّقٌ لِمَنْ يَقُولُ: إِنَّ التَّائِبَ بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي الْمَشِيئَةِ، وَكَانَ هَذَا حَالَ كَثِيرٍ مِنَ الْخَائِفِينَ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِرَجُلٍ: هَلْ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَعَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَهُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاعْمَلْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ مَحَاهُ. وَمِنْهُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ طَارَ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَكَانُوا يَتَّهِمُونَ أَعْمَالَهُمْ وَتَوْبَاتِهِمْ، وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ قُبِلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُمْ شِدَّةَ الْخَوْفِ، وَكَثْرَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمْ مِلْءَ الْأَرْضِ مَا أَمِنَ لَعِظَمِ الذَّنْبِ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: لَا تَثِقْ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُقْبَلُ مِنْكَ أَمْ لَا، وَلَا تَأْمَنْ ذُنُوبَكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي كُفِّرَتْ عَنْكَ أَمْ لَا، إِنَّ عَمَلَكَ مَغِيبٌ عَنْكَ كُلَّهُ. وَالْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - أَعْنِي مَسْأَلَةَ تَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ بِالْأَعْمَالِ - أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ الْكَبَائِرَ تُمْحَى بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ، وَتَقَعُ الْكَبَائِرُ مُكَفَّرَةً بِذَلِكَ كَمَا تُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَهَذَا بَاطِلٌ. وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ قَدْ يُوَازِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَبَيْنَ بَعْضِ الْأَعْمَالِ، فَتُمْحَى الْكَبِيرَةُ بِمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْعَمَلِ، وَيَسْقُطُ الْعَمَلُ، فَلَا يَبْقَى لَهُ ثَوَابٌ، فَهَذَا قَدْ يَقَعُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَ مَمْلُوكَهُ الَّذِي ضَرَبَهُ قَالَ: لَيْسَ لِي فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ شَيْءٌ، حَيْثُ كَانَ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَنْبُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَكَيْفَ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ مُكَفِّرًا لِلْكَبَائِرِ؟ وَسَبَقَ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ السَّيِّئَةَ تُمْحَى وَيُسْقَطُ نَظِيرَهَا حَسَنَةٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ ثَوَابُ الْعَمَلِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الصَّغَائِرِ، فَكَيْفَ بِالْكَبَائِرِ؟ فَإِنَّ بَعْضَ الْكَبَائِرِ قَدْ يُحْبِطُ بَعْضَ الْأَعْمَالِ الْمُنَافِيَةِ لَهَا، كَمَا يُبْطِلُ الْمَنُّ وَالْأَذَى الصَّدَقَةَ، وَتُبْطِلُ الْمُعَامَلَةُ بِالرِّبَا الْجِهَادَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ. وَقَالَ
حُذَيْفَةُ: قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ يَهْدِمُ عَمَلَ مِائَةِ سَنَةٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ، وَكَمَا يُبْطِلُ تَرْكُ صَلَاةِ الْعَصْرِ الْعَمَلَ، فَلَا يُسْتَنْكَرُ أَنْ يُبْطِلَ ثَوَابَ الْعَمَلِ الَّذِي يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ. وَقَدْ خَرَّجَ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُؤْتَى بِحَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَسَيِّئَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَصُّ أَوْ يُقْضَى بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ بَقِيَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وُسِّعَ لَهُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ» . وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْجَرُونَ عَلَى الشَّيْءِ الْقَلِيلِ إِذَا أَعْطَوْهُ، فَيَجِيءُ الْمِسْكِينُ، فَيَسْتَقِلُّونَ أَنْ يُعْطُوهُ تَمْرَةً وَكَسْرَةً وَجَوْزَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيَرُدُّونَهُ، وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ، إِنَّمَا نُؤْجَرُ عَلَى مَا نُعْطِي وَنَحْنُ نُحِبُّهُ، وَكَانَ آخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَا يُلَامُونَ عَلَى الذَّنْبِ الْيَسِيرِ مِثْلَ الْكِذْبَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْغِيبَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ، فَرَغَّبَهُمُ اللَّهُ فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، وَحَذَّرَهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، فَنَزَلَتْ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 7] ، يَعْنِي وَزْنَ أَصْغَرِ النَّمْلِ خَيْرًا يَرَهُ يَعْنِي فِي كِتَابِهِ، وَيَسُرُّهُ ذَلِكَ قَالَ: يُكْتَبُ لِكُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ضَاعَفَ اللَّهُ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرًا، فَيَمْحُو عَنْهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، فَمَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ تَسْقُطُ الْحَسَنَاتُ الْمُقَابِلَةُ لِلسَّيِّئَاتِ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَا يَفْضُلُ مِنْهَا بَعْدَ الْمُقَاصَّةِ، وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ بِحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ أُثِيبَ بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ خَاصَّةً، وَسَقَطَ بَاقِي حَسَنَاتِهِ فِي مُقَابَلَةِ سَيِّئَاتِهِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يُثَابُ بِالْجَمِيعِ، وَتَسْقُطُ سَيِّئَاتُهُ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَهَذَا فِي الْكَبَائِرِ، أَمَّا الصَّغَائِرُ، فَإِنَّهُ قَدْ تُمْحَى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ بَقَاءِ ثَوَابِهَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ» فَأَثْبَتَ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ تَكْفِيرَ الْخَطَايَا وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ يَمْحُو السَّيِّئَاتِ، وَيَبْقَى ثَوَابُهُ لِعَامِلِهِ مُضَاعَفًا. وَكَذَلِكَ سَيِّئَاتُ التَّائِبِ تَوْبَةً نَصُوحًا تُكَفَّرُ عَنْهُ، وَتَبْقَى لَهُ حَسَنَاتُهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 15 - 16] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ - لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ - لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35] ، فَلَمَّا وَصَفَ هَؤُلَاءِ بِالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُصِرِّينَ عَلَى الذُّنُوبِ، بَلْ تَائِبُونَ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35] يَدْخُلُ فِيهِ الْكَبَائِرُ، لِأَنَّهَا أَسْوَأُ الْأَعْمَالِ، وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] ، فَرَتَّبَ عَلَى التَّقْوَى الْمُتَضَمِّنَةِ لِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ وَتَعْظِيمَ الْأَجْرِ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهُمْ، وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّاتِ. وَقَوْلُهُ: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] فَخَصَّ اللَّهُ الذُّنُوبَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالسَّيِّئَاتِ بِالتَّكْفِيرِ. فَقَدْ يُقَالُ: السَّيِّئَاتُ تَخُصُّ الصَّغَائِرَ، وَالذُّنُوبُ يُرَادُ بِهَا الْكَبَائِرُ، فَالسَّيِّئَاتُ تُكَفَّرُ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهَا كَفَّارَاتٍ فِي الدُّنْيَا شَرْعِيَّةً وَقَدَرِيَّةً، وَالذُّنُوبُ تَحْتَاجُ إِلَى مَغْفِرَةٍ تَقِي صَاحِبَهَا مِنْ شَرِّهَا وَالْمَغْفِرَةُ وَالتَّكْفِيرُ مُتَقَارِبَانِ، فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا سَتْرُ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: وِقَايَةُ شَرِّ الذُّنُوبِ مَعَ سَتْرِهِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى مَا سَتَرَ الرَّأْسَ وَوَقَاهُ فِي الْحَرْبِ مِغْفَرًا، وَلَا يُسَمَّى كُلُّ سَاتِرٍ لِلرَّأْسِ مِغْفَرًا، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ التَّائِبِينَ بِالْمَغْفِرَةِ وَوِقَايَةِ السَّيِّئَاتِ وَالتَّكْفِيرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْكُفْرِ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ أَيْضًا. وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ التَّكْفِيرَ مَحْوُ أَثَرِ الذَّنْبِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَالْمَغْفِرَةُ تَتَضَمَّنُ - مَعَ ذَلِكَ - إِفْضَالَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ وَإِكْرَامَهُ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَقَدْ يُفَسَّرُ بِأَنَّ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَقْلِبُهَا حَسَنَاتٍ، وَتَكْفِيرُهَا بِالْمُكَفِّرَاتِ تَمْحُوهَا فَقَطْ، وَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ الذُّنُوبَ الْمُعَاقَبَ عَلَيْهَا بِدُخُولِ النَّارِ تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ فَالْمُكَفِّرَةُ بِعَمَلٍ صَالِحٍ يَكُونُ كَفَّارَةً لَهَا أَوْلَى. وَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَغْفِرَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مَعَ عَدَمِ الْعُقُوبَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، لِأَنَّهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالتَّكْفِيرُ قَدْ يَقَعُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ الْمَصَائِبَ الدُّنْيَوِيَّةَ كُلَّهَا مُكَفِّرَاتٌ لِلْخَطَايَا، وَهِيَ عُقُوبَاتٌ، وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ يَقَعُ مَعَ الْعُقُوبَةِ وَبِدُونِهَا، وَكَذَلِكَ الرَّحْمَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا جَعَلَهَا اللَّهُ لِمَحْوِ الذُّنُوبِ الْمُكَفَّرَةِ بِهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ ثَوَابَهَا، لَيْسَ لَهَا ثَوَابٌ غَيْرُهُ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ مُخَالَفَةِ هَوَى النُّفُوسِ، وَتَجَشُّمِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ كَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ كَفَّارَةً لِلصَّغَائِرِ. وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي تُغْفَرُ بِهَا الذُّنُوبُ، فَهِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ، وَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَغْفِرَةُ وَالثَّوَابُ عَلَيْهَا، كَالذِّكْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْحَسَنَاتُ وَيُمْحَى بِهِ السَّيِّئَاتُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَتُهَا إِذَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ أَيْضًا. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لَمَّا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الَّذِي ضَرَبَهُ: لَيْسَ لِي فِي عِتْقِهِ مِنَ الْأَجْرِ شَيْءٌ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَصَائِبَ الدُّنْيَوِيَّةَ كُلَّهَا مُكَفِّرَاتٌ لِلذُّنُوبِ، وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ، إِنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهَا مَعَ التَّكْفِيرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ: فَقَدْ فَسَّرَ الْكَفَّارَاتِ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فِي الْمَكْرُوهَاتِ، وَنَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الصَّلَوَاتِ، وَقَالَ: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، عَاشَ بِخَيْرٍ، وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَ تَكْفِيرِهَا لِلسَّيِّئَاتِ تَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ، وَيَحْصُلُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ، لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ شَيْئَانِ يَرْفَعُ بِأَحَدِهِمَا الدَّرَجَاتِ، وَيُكَفِّرُ بِالْآخَرِ السَّيِّئَاتِ، فَالْوُضُوءُ نَفْسُهُ يُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنَّ إِسْبَاغَهُ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ مِنْ جِنْسِ الْآلَامِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلنُّفُوسِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ كَفَّارَةً فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، فَتُغْفَرُ بِهِ الْخَطَايَا، كَمَا تُغْفَرُ بِالذِّكْرِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَشْيُ إِلَى الْجَمَاعَاتِ هُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ بِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ بِالتَّعَبِ وَالنَّصَبِ هُوَ كَفَّارَةٌ، وَكَذَلِكَ حَبْسُ النَّفْسَ فِي الْمَسْجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَقَطْعِهَا عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَمِيلُ النُّفُوسُ إِلَيْهَا، إِمَّا لِكَسْبِ الدُّنْيَا أَوْ لِلتَّنَزُّهِ، هُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُؤْلِمٌ لِلنَّفْسِ، فَيَكُونُ كَفَّارَةً. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ إِحْدَى خُطْوَتَيِ الْمَاشِي إِلَى الْمَسْجِدِ تَرْفَعُ لَهُ دَرَجَةً، وَالْأُخْرَى تَحُطُّ عَنْهُ خَطِيئَةً. وَهَذَا يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ مَا حَصَلَ بِهِ التَّكْفِيرُ غَيْرُ مَا حَصَلَ بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا، فَيَجْتَمِعُ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَيُوصَفُ فِي كُلِّ حَالٍ بِكِلَا الْوَصْفَيْنِ، فَلَا تَنَافِي بَيْنَ تَسْمِيَتِهِ كَفَّارَةً وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ بِهِ، أَوْ وَصْفِهِ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» . فَإِنَّ فِي حَبْسِ النَّفْسِ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ مِنْ مُخَالَفَةِ هَوَاهَا وَكَفِّهَا عَمَّا تَمِيلُ إِلَيْهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ. وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ بِمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الْأَلَمِ، وَتَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ بِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ يَجْتَمِعُ فِيهَا مَا يُوجِبُ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةً، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ بِلَا رَيْبٍ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ، فَقَدْ تُكَفَّرُ بِالشَّهَادَةِ مَعَ حُصُولِ الْأَجْرِ لِلشَّهِيدِ، لَكِنَّ الشَّهِيدَ ذَا الْخَطَايَا فِي رَابِعِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ، كَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

وَأَمَّا مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ مَعَ تَوْفِيرِ أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الذِّكْرِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ تُكْتَبُ حَسَنَاتٍ أَيْضًا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَذَكَرْنَا أَيْضًا عَنْ
بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يُمْحَى بِإِزَاءِ السَّيِّئَةِ الْوَاحِدَةِ ضِعْفٌ وَاحِدٌ مِنْ أَضْعَافِ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ، وَتَبْقَى لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالصَّغَائِرِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَيُوَازَنُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَيُقَصُّ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَقَدْ نَجَا وَدَخَلَ الْجَنَّةَ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ، وَهَكَذَا مَنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَعَلَيْهِ مَظَالِمُ، فَاسْتَوْفَى الْمَظْلُومُونَ حُقُوقَهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَبَقِيَ لَهُ حَسَنَةٌ، دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، ضَاعَفَهَا اللَّهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا قَالَ الْمَلَكَ: رَبِّ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، وَبَقِيَ لَهُ طَالِبُونَ كَثِيرٌ، قَالَ: خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَأَضْعِفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ، خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَالْمُرَادُ أَنَّ تَفْضِيلَ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ إِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِمُضَاعَفَتِهِ لِحَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِ وَبَرَكَتِهِ فِيهَا، وَهَكَذَا حَالُ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، وَأَرَادَ اللَّهُ رَحْمَتَهُ، فَضَلَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا يُدْخِلُهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَكُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: قُلْ لِأَهْلِ طَاعَتِي مِنْ أُمَّتِكَ: لَا يَتَّكِلُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَإِنِّي لَا أُقَاصُّ عَبْدًا الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَاءُ أَنْ أُعَذِّبَهُ إِلَّا عَذَّبْتُهُ، وَقُلْ لِأَهْلِ مَعْصِيَتِي مِنْ أُمَّتِكَ: لَا يُلْقُوا بِأَيْدِيهِمْ، فَإِنِّي أَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ وَلَا أُبَالِي» "، وَمِصْدَاقُ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» وَفِي رِوَايَةٍ " هَلَكَ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّغَائِرَ هَلْ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا كَالْكَبَائِرِ أَمْ لَا؟ لِأَنَّهَا تَقَعُ مُكَفِّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] . هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ التَّوْبَةَ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ عُقَيْبَ ذِكْرِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ - وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 - 31] إِلَى قَوْلِهِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] [النُّورِ: 3 - 31] . وَأَمَرَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الصَّغَائِرِ بِخُصُوصِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُوجِبِ التَّوْبَةَ مِنْهَا، وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَالَ: يَجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا التَّوْبَةُ مِنْهَا، أَوِ الْإِتْيَانُ بِبَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ لِلذُّنُوبِ مِنَ الْحَسَنَاتِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِي " تَفْسِيرِهِ " فِي تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ بِامْتِثَالِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا - وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ -: أَنَّهُ يُقْطَعُ بِتَكْفِيرِهَا بِذَلِكَ قَطْعًا لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ. وَالثَّانِي - وَحَكَاهُ عَنِ الْأُصُولِيِّينَ -: أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ، وَهُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ لَوْ قُطِعَ بِتَكْفِيرِهَا، لَكَانَتِ الصَّغَائِرُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا تَبِعَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ نَقْضٌ لِعُرَى الشَّرِيعَةِ. قُلْتُ: قَدْ يُقَالُ: لَا يُقْطَعُ بِتَكْفِيرِهَا، لِأَنَّ أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ الْمُطْلَقَةَ بِالْأَعْمَالِ جَاءَتْ مُقَيَّدَةً بِتَحْسِينِ الْعَمَلِ، كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ حُسْنِ الْعَمَلِ الَّذِي يُوجِبُ التَّكْفِيرَ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ يَنْبَنِي الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوبِ التَّوْبَةِ مِنَ الصَّغَائِرِ. وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا: نَرَى أَشْيَاءَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا يُعْمَلُ بِهَا، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ أَحْصَيْتَهُ فِي نَفْسِكَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ: فَهَلْ أَحْصَيْتَهُ فِي بَصَرِكَ؟ فَهَلْ أَحْصَيْتَهُ فِي لَفْظِكَ؟ هَلْ أَحْصَيْتَهُ فِي أَثَرِكَ؟ ثُمَّ تَتَبَّعَهُمْ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: ثَكِلَتْ عُمْرَ أُمُّهُ، أَتُكَلِّفُونَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى النَّاسِ كِتَابَ اللَّهِ؟ قَدْ عَلِمَ رَبُّنَا أَنَّهُ سَيَكُونُ لَنَا سَيِّئَاتٌ، قَالَ: وَتَلَا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَنَا عَنْ رَبِّنَا تَعَالَى، لَمْ نُخَرِّجْ لَهُ عَنْ كُلِّ أَهْلٍ وَمَالٍ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّفَنَا رَبُّنَا أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، لَقَدْ تَجَاوَزَ لَنَا عَمَّا دُونَ الْكَبَائِرِ، فَمَالَنَا وَلَهَا، ثُمَّ تَلَا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] . وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " مَرْفُوعًا، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُحْسِنِينَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ قَالَ تَعَالَى: {وَيَجْزِي الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 31] [النَّجْمِ: 32] . وَفِي تَفْسِيرِ اللَّمَمِ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُقَدِّمَاتُ الْفَوَاحِشِ كَاللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ مَا دُونَ الْحَدِّ مِنْ وَعِيدِ الْآخِرَةِ بِالنَّارِ وَحَدِّ الدُّنْيَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْكَبَائِرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِالشَّكِّ فِي رَفْعِهِ، قَالَ: اللَّمَّةُ مِنَ الزِّنَا ثُمَّ يَتُوبُ فَلَا يَعُودُ، وَاللَّمَّةُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ثُمَّ يَتُوبُ فَلَا يَعُودُ، وَاللَّمَّةُ مِنَ السَّرِقَةِ ثُمَّ يَتُوبُ فَلَا يَعُودُ. وَمَنْ فَسَّرَ الْآيَةَ بِهَذَا قَالَ: لَابُدَّ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ بِخِلَافِ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْمُقَدِّمَاتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ تَوْبَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ صَحِيحَانِ، وَأَنَّ كِلَيْهِمَا مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُحْسِنُ: هُوَ مَنْ لَا يَأْتِي بِكَبِيرَةٍ إِلَّا نَادِرًا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهَا، وَمَنْ إِذَا أَتَى بِصَغِيرَةٍ كَانَتْ مَغْمُورَةً فِي حَسَنَاتِهِ الْمُكَفِّرَةِ لَهَا، وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ مُصِرًّا عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ وُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ.
وَإِذَا صَارَتِ الصَّغَائِرُ كَبَائِرَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، فَلَابُدَّ لِلْمُحْسِنِينَ مِنِ اجْتِنَابِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصَّغَائِرِ حَتَّى يَكُونُوا مُجْتَنِبِينَ لِكَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ - وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ - وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 36 - 40] . فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَضَمَّنَتْ وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِيَامِهِمْ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّوَكُّلِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ طَاعَاتِهِ، وَمَعَ هَذَا، فَهُمْ مُجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ، فَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ التَّقْوَى، وَوَصَفَهُمْ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْخَلْقِ بِالْمَغْفِرَةِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْعَفْوِ وَالْإِصْلَاحِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] فَلَيْسَ مُنَافِيًا لِلْعَفْوِ، فَإِنَّ الِانْتِصَارَ يَكُونُ بِإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ، ثُمَّ يَقَعُ الْعَفْوُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ. قَالَ النَّخَعِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدِرُوا عَفَوْا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ،فَيَجْتَرِئُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقُ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا بُغِيَ عَلَيْهِ، يُظْهِرُ الْقُدْرَةَ عَلَى الِانْتِقَامِ، ثُمَّ يَعْفُو بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا لِكَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَتَضَمَّنُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصِيَّتِهِ لِمُعَاذٍ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ حُصُولَ خِصَالِ التَّقْوَى بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنْ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمُعَامَلَةِ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ وَالْعَفْوِ، وَلَازِمُ هَذَا أَنَّهُمْ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْإِثْمِ مِنْ غَيْرِ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، يَكُونُ مَغْمُورًا بِخِصَالِ التَّقْوَى الْمُقْتَضِيَةِ لِتَكْفِيرِهَا وَمَحْوِهَا. وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَوَصَفَ فِيهَا الْمُتَّقِينَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وَبِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَظُلْمِ النَّفْسِ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ، وَهُوَ إِحْدَاثُ التَّوْبَةِ، وَالِاسْتِغْفَارُ عُقَيْبَ كُلِّ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، كَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّى بِذَلِكَ مُعَاذًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ. وَإِنَّمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا، لِأَنَّ حَاجَةَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ شَدِيدَةٌ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا، ثُمَّ إِلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» ظَاهِرُهُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ تُمْحَى بِالْحَسَنَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْآثَارِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ السَّيِّئَةَ تُمْحَى مِنْ صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ بِالْحَسَنَةِ إِذَا عُمِلَتْ بَعْدَهَا. قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ بَكَى عَلَى خَطِيئَةٍ مُحِيَتْ عَنْهُ، وَكُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَنْ ذَكَرَ خَطِيئَةً عَمِلَهَا، فَوَجِلَ قَلْبُهُ مِنْهَا، فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَحْبِسْهَا شَيْءٌ حَتَّى يَمْحُوَهَا عَنْهُ الرَّحْمَنُ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ: بَلَغَنِي عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ: بُكَاءُ النَّهَارِ يَمْحُو ذُنُوبَ الْعَلَانِيَةِ، وَبُكَاءُ اللَّيْلِ يَمْحُو ذُنُوبَ السِّرِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» الْحَدِيثَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تُمْحَى الذُّنُوبُ مِنْ صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ بِتَوْبَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ لَابُدَّ أَنْ يُوقِفَ عَلَيْهَا صَاحَبَهَا وَيَقْرَأَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ فِيهَا حَالَ الْمُجْرِمِينَ، وَهُمْ أَهْلُ الْجَرَائِمِ وَالذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ التَّائِبُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، أَوِ الْمَغْمُورَةُ ذُنُوبُهُمْ بِحَسَنَاتِهِمْ. وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَبِلَالِ بْنِ سَعْدٍ الدِّمَشْقِيِّ، قَالَ الْحَسَنُ: فَالْعَبْدُ يُذْنِبُ، ثُمَّ يَتُوبُ، وَيَسْتَغْفِرُ: يُغْفَرُ لَهُ، وَلَكِنْ لَا يُمْحَاهُ مِنْ كِتَابِهِ دُونَ أَنْ يَقِفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْأَلُهُ عَنْهُ، ثُمَّ بَكَى الْحَسَنُ بُكَاءً شَدِيدًا، وَقَالَ: وَلَوْ لَمْ نَبْكِ إِلَّا لِلْحَيَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ، لَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْكِيَ. وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَلَكِنْ لَا يَمْحُوهَا مِنَ الصَّحِيفَةِ حَتَّى يُوقِفَهُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ تَابَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُدْنِي اللَّهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيَسْتُرُهُ مِنَ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا، وَيَدْفَعُ إِلَيْهِ كِتَابَهُ فِي ذَلِكَ السَّتْرِ، فَيَقُولُ: اقْرَأْ يَا ابْنَ آدَمَ كِتَابَكَ، فَيَقْرَأُ، فَيَمُرُّ بِالْحَسَنَةِ فَيَبْيَضُّ لَهَا وَجْهُهُ، وَيُسَرُّ بِهَا قَلْبُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَتَعْرِفُ يَا عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: إِنِّي قَبِلْتُهَا مِنْكَ، فَيَسْجُدُ، فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَعُدْ فِي كِتَابِكَ، فَيَمُرُّ بِالسَّيِّئَةِ، فَيَسْوَدُّ لَهَا وَجْهُهُ، وَيَوْجَلُ لَهَا قَلْبُهُ، وَتَرْتَعِدُ مِنْهَا فَرَائِصُهُ، وَيَأْخُذُهُ مِنَ الْحَيَاءِ مِنْ رَبِّهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ يَا عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ، فَيَسْجُدُ، فَلَا يَرَى مِنْهُ الْخَلَائِقُ إِلَّا السُّجُودَ حَتَّى يُنَادِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: طُوبَى لِهَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ قَطُّ، وَلَا يَدْرُونَ مَا قَدْ لَقِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِمَّا قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ سَلْمَانَ: يُعْطَى الرَّجُلُ صَحِيفَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقْرَأُ أَعْلَاهَا، فَإِذَا سَيِّئَاتُهُ، فَإِذَا كَادَ يَسُوءُ ظَنُّهُ، نَظَرَ فِي أَسْفَلِهَا، فَإِذَا حَسَنَاتُهُ، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَعْلَاهَا، فَإِذَا هِيَ قَدْ بُدِّلَتْ حَسَنَاتٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ أَصَحُّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ: الْمُتَّقِينَ، ثُمَّ الشَّاكِرِينَ، ثُمَّ الْخَائِفِينَ، ثُمَّ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. قِيلَ: لِمَ سُمُّوا أَصْحَابَ الْيَمِينِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَأَعْطُوا كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، فَقَرَءُوا سَيِّئَاتِهِمْ حَرْفًا حَرْفًا قَالُوا: يَا رَبَّنَا هَذِهِ سَيِّئَاتُنَا فَأَيْنَ حَسَنَاتُنَا؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ مَحَا اللَّهُ السَّيِّئَاتِ، وَجَعَلَهَا حَسَنَاتٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] فَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ قَدْ يَحْمِلُونَ أَحَادِيثَ مَحْوِ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ عَلَى مَحْوِ عُقُوبَاتِهَا دُونَ مَحْوِ كِتَابَتِهَا مِنَ الصُّحُفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» " هَذَا مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى، وَلَا تَتِمُّ التَّقْوَى إِلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِلْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ الْقِيَامُ بِحَقِّ اللَّهِ دُونَ حُقُوقِ عِبَادِهِ، فَنَصَّ لَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِإِحْسَانِ الْعِشْرَةِ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ مُعَلِّمًا لَهُمْ وَمُفَقِّهًا وَقَاضِيًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَالَقَةِ النَّاسِ بِخُلُقٍ حَسَنٍ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّا لَا حَاجَةَ لِلنَّاسِ بِهِ وَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَكَثِيرًا مَا يَغْلِبُ عَلَى مَنْ يَعْتَنِي بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَالِانْعِكَافِ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِهْمَالِ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوِ التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ عَزِيزٌ جِدًّا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ إِلَّا الْكُمَّلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ عَزِيزَةٌ أَوْ مَعْدُومَةٌ: حُسْنُ الْوَجْهِ مَعَ الصِّيَانَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الدِّيَانَةِ، وَحُسْنُ الْإِخَاءِ مَعَ الْأَمَانَةِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَلَسَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَالِيًا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَالِي أَرَاكَ خَالِيًا؟ قَالَ: هَجَرْتُ النَّاسَ فِيكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: يَا دَاوُدُ أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى مَا تَسْتَبْقِي بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ، وَتَبْلُغُ فِيهِ رِضَايَ؟ خَالِقِ النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَاحْتَجِزِ الْإِيمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقَدْ عَدَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مُخَالَقَةَ النَّاسِ بِخُلُقٍ حَسَنٍ مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى، بَلْ
بَدَأَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134]. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ، كَيْفَ أَكُونُ تَقِيًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ؟ قَالَ: بِيَسِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ: تُحِبُّ اللَّهَ بِقَلْبِكَ كُلِّهِ، وَتَعْمَلُ بِكَدْحِكَ وَقُوَّتِكَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَتَرْحَمُ ابْنَ جِنْسِكَ كَمَا تَرْحَمُ نَفْسَكَ، قَالَ: مَنِ ابْنُ جِنْسِي يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ؟ قَالَ: وَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ، وَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ، فَلَا تَأْتِهِ لِأَحَدٍ وَأَنْتَ تَتَّقِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسْنَ الْخُلُقِ أَكْمَلَ خِصَالَ الْإِيمَانِ، كَمَا خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» وَخَرَّجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَزَادَ فِيهِ: " «إِنَّ الْمَرْءَ لَيَكُونُ مُؤْمِنًا وَإِنَّ فِي خُلُقِهِ شَيْئًا فَيَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ إِيمَانِهِ» ". وَخَرَّجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ؟ قَالَ: " الْخُلُقُ الْحَسَنُ» . وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَاحِبَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ يَبْلُغُ بِخُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ الْمُرِيدُ لِلتَّقْوَى عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَيَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُهُ عَنْ فَضْلِهِمَا، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ الصَّائِمِ وَالْقَائِمِ» . وَأَخْبَرَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مَجْلِسًا، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي مِيزَانِ الْعَبْدِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ» . وَخَرَّجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا» وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» ، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ تَفْسِيرُ حُسْنِ الْخُلُقِ فَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: الْكَرَمُ وَالْبِذْلَةُ وَالِاحْتِمَالُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: الْبِذْلَةُ وَالْعَطِيَّةُ وَالْبِشْرُ الْحَسَنُ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ كَذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى. وَسُئِلَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، فَأَنْشَدَ:
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا ... كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ رُوحِهِ ... لَجَادَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ سَائِلُهُ
هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ ... فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ وَالْجُودُ سَاحِلُهُ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حُسْنُ الْخُلُقِ أَنْ لَا تَغْضَبَ وَلَا تَحْتَدَّ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ أَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَأَنْ لَا تَغْضَبَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: حُسْنُ الْخُلُقِ كَظْمُ الْغَيْظِ لِلَّهِ، وَإِظْهَارُ الطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرُ إِلَّا لِلْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الزَّالِّينَ إِلَّا تَأْدِيبًا وَإِقَامَةُ الْحَدِّ وَكَفُّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوَمُعَاهَدٍ إِلَّا تَغْيِيرَ مُنْكَرٍ وَأَخْذًا بِمَظْلَمَةٍ لِمَظْلُومٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ. وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصْفَحَ عَمَّنْ شَتَمَكَ» . وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُقْبَةُ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَكْرَمِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.»

Tidak ada komentar:

Posting Komentar

MUHASABATUN NAFS.

KOREKSI DIRI DAN ISTIQAMAH SETELAH RAMADHAN. Apakah kita yakin bahwa amal kita pasti diterima..?, kita hanya bisa berharap semoga Allah mene...