Senin, 10 April 2017

JAMIUL ULUM WAL HIKAM HADIS KE 4



[الْحَدِيثُ الرَّابِعُ إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً]

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَعَمَلِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ طَرِيقِهِ خَرَّجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْأَسْفَاطِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي حَدَّثَ عَنْكَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ حَدَّثْتُهُ بِهِ أَنَا " يَقُولُهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ غَفَرَ اللَّهُ لِلْأَعْمَشِ كَمَا حَدَّثَ بِهِ، وَغَفَرَ اللَّهُ
لِمَنْ حَدَّثَ بِهِ قَبْلَ الْأَعْمَشِ، وَلِمَنْ حَدَّثَ بِهِ بَعْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً» قَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ رَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ طَارَتْ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ وَظُفْرٍ، فَتَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَنْحَدِرُ فِي الرَّحِمِ، فَتَكُونُ عَلَقَةً. قَالَ: فَذَلِكَ جَمْعُهَا. خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ تَفْسِيرُ الْجَمْعِ مَرْفُوعًا بِمَعْنًى آخَرَ، فَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مِنْدَهْ فِي كِتَابِ " التَّوْحِيدِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ خَلْقَ عَبْدٍ، فَجَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ وَعُضْوٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ لَهُ دُونَ آدَمَ:» {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] قَالَ ابْنُ مِنْدَهْ: إِسْنَادُهُ مُتَّصِلٌ مَشْهُورٌ عَلَى رَسْمِ أَبِي عِيسَى وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَخَرَّجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُطَهَّرِ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِجَدِّهِ «يَا فُلَانُ مَا وُلِدَ لَكَ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا عَسَى أَنْ يُولَدَ لِي؟ إِمَّا غُلَامٌ وَإِمَّا جَارِيَةٌ، قَالَ: فَمَنْ يُشْبِهُ؟ قَالَ مَنْ عَسَى أَنْ يُشْبِهَ؟ يُشْبِهُ أُمَّهُ أَوْ أَبَاهُ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُولَنَّ كَذَا. إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ، أَحْضَرَهَا اللَّهُ كُلَّ نَسَبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آدَمَ، أَمَا قَرَأْتَ هَذِهِ الْآيَةَ {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] (الِانْفِطَارِ: 8) قَالَ: سَلَكَكَ» وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ وَمُطَهَّرُ بْنُ الْهَيْثَمِ ضَعِيفٌ جِدًّا: وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ وَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يُسْلِمْ إِلَّا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا صُحْبَةَ لَهُ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: وَلَدَتِ امْرَأَتِي غُلَامًا أَسْوَدَ قَالَ: «لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ» . وَقَوْلُهُ «ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ» يَعْنِي: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْعَلَقَةُ قِطْعَةٌ مِنْ دَمٍ. «ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ» يَعْنِي: أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَالْمُضْغَةُ: قِطْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ. «ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ.» فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فِي ثَلَاثَةِ أَطْوَارٍ، فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْهَا يَكُونُ فِي طَوْرٍ، فَيَكُونُ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى نُطْفَةً، ثُمَّ فِي

الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ عَلَقَةً، ثُمَّ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، مُضْغَةً ثُمَّ بَعْدَ الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا يَنْفُخُ الْمَلَكُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيَكْتُبُ لَهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَ الْكَلِمَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ تَقَلُّبَ الْجَنِينِ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 5] (الْحَجِّ: 5) . وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَطْوَارَ الثَّلَاثَةَ: النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ذَكَرَ زِيَادَةً عَلَيْهَا، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ (12 - 14) {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14] . فَهَذِهِ سَبْعُ تَارَاتٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِخَلْقِ ابْنِ آدَمَ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: خُلِقَ ابْنُ آدَمَ مِنْ سَبْعٍ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ. وَسُئِلَ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ، فَهَلْ يُخْلَقُ أَحَدٌ حَتَّى تَجْرِيَ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَةُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: وَهَلْ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَمُرَّ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ؟ . وَرُوِيَ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَذَاكَرُوا الْعَزْلَ، فَقَالُوا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ عَلَى التَّارَاتِ السَّبْعِ: تَكُونُ سُلَالَةً مِنْ طِينٍ، ثُمَّ تَكُونُ نُطْفَةً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً، ثُمَّ تَكُونُ عِظَامًا، ثُمَّ تَكُونُ لَحْمًا، ثُمَّ تَكُونُ خَلْقًا آخَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ ".
وَقَدْ رَخَّصَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لِلْمَرْأَةِ فِي إِسْقَاطِ مَا فِي بَطْنِهَا مَا لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ، وَجَعَلُوهُ كَالْعَزْلِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ وَلَدٌ انْعَقَدَ، وَرُبَّمَا تَصَوَّرَ وَفِي الْعَزْلِ لَمْ يُوجَدْ وَلَدٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا تَسَبَّبَ إِلَى مَنْعِ انْعِقَادِهِ، وَقَدْ لَا يَمْتَنِعُ انْعِقَادُهُ بِالْعَزْلِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَهُ، كَمَا قَالَ «النَّبِيُّ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْعَزْلِ: قَالَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْزِلُوا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا» . وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ إِذَا صَارَ الْوَلَدُ عَلَقَةً، لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْأَةِ إِسْقَاطُهُ؛ لِأَنَّهُ وَلَدٌ انْعَقَدَ بِخِلَافِ النُّطْفَةِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ بَعْدُ، وَقَدْ لَا تَنْعَقِدُ وَلَدًا. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذِكْرُ الْعِظَامِ وَأَنَّهُ يَكُونُ عَظْمًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ النُّطْفَةَ تَكُونُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى حَالِهَا لَا تُغَيَّرُ، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعُونَ، صَارَتْ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً كَذَلِكَ، ثُمَّ عِظَامًا كَذَلِكَ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُسَوِّيَ خَلْقَهُ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا،» وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ، تَكُونُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً نُطْفَةً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ تَكُونُ عِظَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكْسُو اللَّهُ الْعِظَامَ لَحْمًا» . وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ لَا يُكْسَى اللَّحْمَ إِلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَهَذَا غَلَطٌ بِلَا رَيْبٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ بِلَا رَيْبٍ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ: هُوَ ابْنُ جُدْعَانَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ الْعِظَامِ وَاللَّحْمِ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ أَذْكُرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أَمَرَ وَلَا يَنْقُصُ» . وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَصْوِيرَ الْجَنِينِ وَخَلْقَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَجِلْدِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ لَحْمًا وَعِظَامًا. وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يُقَسِّمُ النُّطْفَةَ إِذَا صَارَتْ عَلَقَةً إِلَى أَجْزَاءٍ، فَيَجْعَلُ بَعْضَهَا لِلْجَلْدِ، وَبَعْضَهَا لِلَّحْمِ، وَبَعْضَهَا لِلْعِظَامِ، فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، بَلْ ظَاهِرُهُ أَنْ يُصَوِّرَهَا وَيَخْلُقَ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ كُلَّهَا، وَقَدْ يَكُونُ خَلْقُ ذَلِكَ بِتَصْوِيرِهِ وَتَقْسِيمِهِ قَبْلَ وُجُودِ اللَّحْمِ وَالْعِظَامِ، قَدْ يَكُونُ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَجِنَّةِ دُونَ بَعْضٍ. وَحَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ الْمُتَقَدِّمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّصْوِيرَ يَكُونُ لِلنُّطْفَةِ أَيْضًا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] (الْإِنْسَانِ: 2) وَفَسَّرَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَمْشَاجَ النُّطْفَةِ بِالْعُرُوقِ الَّتِي فِيهَا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَمْشَاجُهُا: عُرُوقُهَا وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمَنِيَّ إِذَا وَقَعَ فِي الرَّحِمِ، حَصَلَ لَهُ زُبْدِيَّةٌ وَرَغْوَةٌ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً، وَفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تُصَوَّرُ النُّطْفَةُ مِنْ غَيْرِ اسْتِمْدَادٍ مِنَ الرَّحِمِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَسْتَمِدُّ مِنْهُ، وَابْتِدَاءُ الْخُطُوطِ وَالنَّقْطِ بَعْدَ هَذَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ يَتَقَدَّمُ يَوْمًا وَيَتَأَخَّرُ يَوْمًا، ثُمَّ بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ - وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ - يَنْفُذُ الدَّمُ إِلَى الْجَمِيعِ فَيَصِيرُ عَلَقَةً، ثُمَّ تَتَمَيَّزُ الْأَعْضَاءُ تَمَيُّزًا ظَاهِرًا، وَيَتَنَحَّى بَعْضُهَا عَنْ مُمَارَسَةِ بَعْضٍ، وَتَمْتَدُّ رُطُوبَةُ النُّخَاعِ، ثُمَّ بَعْدَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ يَنْفَصِلُ الرَّأْسُ عَنِ الْمَنْكِبَيْنِ وَالْأَطْرَافُ عَنِ الْأَصَابِعِ تَمَيُّزًا يَسْتَبِينُ فِي بَعْضٍ، وَيَخْفَى فِي بَعْضٍ. قَالُوا: وَأَقَلُّ مُدَّةٍ يَتَصَوَّرُ الذَّكَرُ فِيهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالزَّمَانُ الْمُعْتَدِلُ فِي تَصْوِيرِ الْجَنِينِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَقَدْ يَتَصَوَّرُ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالُوا: وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَسْقَاطِ ذَكَرٌ تَمَّ قَبْلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَا أُنْثَى قَبْلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَهَذَا يُوَافِقُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ فِي التَّخْلِيقِ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، وَمَصِيرُهُ لَحْمًا فِيهَا أَيْضًا. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى وَصْفُ الْمَنِيِّ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ وَصْفُ الْعَلَقَةِ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَصْفُ الْمُضْغَةِ، وَإِنْ كَانَتْ خِلْقَتُهُ قَدْ تَمَّتْ وَتَمَّ تَصْوِيرُهُ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذِكْرُ وَقْتِ تَصْوِيرِ الْجَنِينِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَفْسِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَصْوِيرَهُ قَدْ يَقَعُ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ
الثَّالِثَةِ أَيْضًا، فَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: النُّطْفَةُ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ جَاءَهَا مَلَكٌ فَأَخَذَهَا بِكَفِّهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مُخَلَّقَةٌ أَمْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قِيلَ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ، لَمْ تَكُنْ نَسَمَةً، وَقَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ، وَإِنْ قِيلَ مُخَلَّقَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، مَا الْأَجَلُ وَمَا الْأَثَرُ؟ ، وَبِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؟ قَالَ: فَيُقَالُ لِلنُّطْفَةِ: مَنْ رَبُّكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ: مَنْ رَازِقُكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ: اذْهَبْ إِلَى الْكِتَابِ، فَإِنَّكَ سَتَجِدُ فِيهِ قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةَ، قَالَ: فَتُخْلَقُ، فَتَعِيشُ فِي أَجَلِهَا وَتَأْكُلُ فِي رِزْقِهَا، وَتَطَأُ فِي أَثَرِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا، مَاتَتْ، فَدُفِنَتْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ تَلَا الشَّعْبِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] (الْحَجِّ: 5) . فَإِذَا بَلَغَتْ مُضْغَةً، نُكِّسَتْ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ فَكَانَتْ نَسَمَةً، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، قَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّقَةً نُكِّسَتْ نَسَمَةً. خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْ لَا تَصْوِيرَ قَبْلَ ثَمَانِينَ يَوْمًا، فَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6] (آلِ عِمْرَانَ: 6) قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الْأَرْحَامِ، طَارَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا بَلَغَ أَنْ تُخْلَقَ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يُصَوِّرُهَا، فَيَأْتِي الْمَلَكُ بِتُرَابٍ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، فَيَخْلِطُهُ فِي الْمُضْغَةِ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ بِهَا، ثُمَّ يُصَوِّرُهَا كَمَا يُؤْمَرُ فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ وَمَا رِزْقُهُ، وَمَا عُمُرُهُ، وَمَا أَثَرُهُ، وَمَا مَصَائِبُهُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، فَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ الْجَسَدُ، دُفِنَ حَيْثُ
أُخِذَ ذَلِكَ التُّرَابُ، خَرَّجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " وَلَكِنَّ السُّدِّيَّ مُخْتَلِفٌ فِي أَمْرِهِ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يُنْكِرُ عَلَيْهِ جَمْعَهُ الْأَسَانِيدَ الْمُتَعَدِّدَةَ لِلتَّفْسِيرِ الْوَاحِدِ، كَمَا كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ يُنْكِرُونَ عَلَى الْوَاقِدِيِّ جَمْعَهُ الْأَسَانِيدَ الْمُتَعَدِّدَةَ لِلْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. وَقَدْ أَخَذَ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْفُوعَ عَلَيْهَا، وَقَالُوا: أَقَلُّ مَا يَتَبَيَّنُ خَلْقُ الْوَلَدِ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُضْغَةً إِلَّا فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، وَلَا يَتَخَلَّقُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً. وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: إِنَّهُ لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ، وَلَا تُعْتَقُ أَمُّ الْوَلَدِ إِلَّا بِالْمُضْغَةِ الْمُخَلَّقَةِ، وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّقَ وَيَتَصَوَّرَ فِي أَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْعَلَقَةِ: هِيَ دَمٌ لَا يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَلْقُ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُضْغَةُ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، فَهَلْ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ، وَتَصِيرُ أَمُّ الْوَلَدِ بِهَا مُسْتَوْلِدَةً؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا التَّخْطِيطُ، وَلَكِنْ كَانَ خَفِيًّا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَهْلُ الْخِبْرَةِ مِنَ النِّسَاءِ، فَشَهِدْنَ بِذَلِكَ، قُبِلَتْ شَهَادَتَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ قَبْلَهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ خَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُهُ صَالِحٌ فِي الطِّفْلِ يَتَبَيَّنُ خَلْقُهُ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا نُكِّسَ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ، كَانَ مُخَلَّقًا، انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ، وَعَتَقَتْ بِهِ الْأَمَةُ، إِذَا كَانَ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَا نَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ: إِذَا أَسْقَطَتْ أَمُّ الْوَلَدِ، فَإِنْ كَانَ خِلْقَةً تَامَّةً عَتَقَتْ، وَانْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ إِذَا دَخَلَ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَهَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إِذَا تَبَيَّنَ خَلْقُهُ، لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ أَنَّهَا تُعْتَقُ بِذَلِكَ إِذَا كَانَتْ أَمَةً، وَنَقَلَ عَنْهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ فِي الْعَلَقَةِ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَلَدٌ أَنَّ الْأَمَةَ تُعْتَقُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَحَكَى قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ طَرَدَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ أَحْمَدَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ أَيْضًا. وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّخْلِيقُ فِي الْعَلَقَةِ كَمَا قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْمُتَقَدِّمِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: حَدِيثُ حُذَيْفَةَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَخَلَّقُ إِذَا صَارَ لَحْمًا وَعَظْمًا، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، لَا فِي حَالِ كَوْنِهِ عَلَقَةً، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَلَقَةَ تَتَخَلَّقُ وَتَتَخَطَّطُ، وَكَذَلِكَ الْقَوَابِلُ مِنَ النِّسْوَةِ يَشْهَدْنَ بِذَلِكَ، وَحَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ يَشْهَدُ بِالتَّصْوِيرِ فِي حَالِ كَوْنِ الْجَنِينِ نُطْفَةً أَيْضًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَبَقِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ بَعْدَ مَصِيرِهِ مُضْغَةً أَنَّهُ يَبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَكْتُبُ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعَ، وَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَاخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابَةِ وَالنَّفْخِ، فَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي " صَحِيحِهِ " «وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصْرِيحٌ بِتَأْخِيرِ نَفْخِ الرُّوحِ عَنِ الْكِتَابَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ خَرَّجَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ " الْقَدَرِ " «ثُمَّ يُبْعَثُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ،» وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُصَرِّحُ بِتَقَدُّمِ النَّفْخِ عَلَى الْكِتَابَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ بِرِوَايَاتِهِمْ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُونَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَرْتِيبَ الْأَخْبَارِ فَقَطْ لَا تَرْتِيبَ مَا أُخْبِرَ بِهِ. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَنِينِ وَكِتَابَةِ الْمَلَكِ لِأَمْرِهِ إِلَى بَعْدِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى تَتِمَّ الْأَرْبَعُونَ الثَّالِثَةُ. فَأَمَّا نَفْخُ الرُّوحِ، فَقَدْ رُوِيَ صَرِيحًا عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. فَرَوَى زَيْدُ بْنُ عَلِيًّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: إِذَا تَمَّتِ النُّطْفَةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بُعِثَ إِلَيْهَا مَلَكٌ، فَنَفَخَ فِيهَا الرُّوحَ فِي الظُّلُمَاتِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] (الْمُؤْمِنُونَ: 14) ، خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ. وَخَرَّجَ الَّالِكَائِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ، مَكَثَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ نُفِخَ فِيهَا الرُّوحُ، ثُمَّ مَكَثَتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ بُعِثَ إِلَيْهَا مَلَكٌ، فَنَقَفَهَا فِي نُقْرَةِ الْقَفَا، وَكَتَبَ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَفِيهِ أَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَبَنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَذْهَبَهُ الْمَشْهُورَ عَنْهُ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّ الطِّفْلَ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ بَعْدَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، صُلِّيَ عَلَيْهِ؛ حَيْثُ كَانَ قَدْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ ثُمَّ مَاتَ. وَحُكِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَفِي تِلْكَ الْعَشْرِ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ عَنْهُ: تَكُونُ النَّسَمَةُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَعَلَقَةً
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَمُضْغَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ تَكُونُ عَظْمًا وَلَحْمًا، فَإِذَا تَمَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ. فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرِّوَايَاتُ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ عَنْ أَحْمَدَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي مُدَّةِ الْعَشْرِ بَعْدَ تَمَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْهُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ حَيْثُ جُعِلَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا: مَا بَالُ الْعَشْرِ؟ قَالَ: يُنْفَخُ فِيهَا الرُّوحُ. وَأَمَّا أَهْلُ الطِّبِّ، فَذَكَرُوا أَنَّ الْجَنِينَ إِنْ تَصَوَّرَ فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا تَحَرَّكَ فِي سَبْعِينَ يَوْمًا، وَوُلِدَ فِي مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ أَيَّامًا، وَتَأَخَّرَ فِي التَّصْوِيرِ وَالْوِلَادَةِ، وَإِذَا كَانَ التَّصْوِيرُ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، تَحَرَّكَ فِي تِسْعِينَ يَوْمًا، وَوُلِدَ فِي مِائَتَيْنِ وَسَبْعِينَ يَوْمًا، وَذَلِكَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا كِتَابَةُ الْمَلَكِ، فَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَيْضًا عَلَى مَا سَبَقَ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ؟ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقًا، قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» وَظَاهِرُ هَذَا يُوَافِقُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرُ مُدَّةٍ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الَّذِي تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ تَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِلَفْظٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَوْ
سَعِيدٌ؟ فَيَكْتُبَانِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ فَيَكْتُبَانِ، وَيَكْتُبُ عَمَلَهُ، وَأَثَرَهُ وَأَجَلَهُ وَرِزْقَهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ.» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: «إِنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: " لِبِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ". وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بُعِثَ إِلَيْهَا مَلَكٌ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيَعْلَمُ» . وَقَدْ سَبَقَ مَا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يُبْعَثُ إِلَيْهِ وَهُوَ نُطْفَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تُعْرَضُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ، فَيَنْظُرُ فِيهَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْأَرْحَامِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6] (آلِ عِمْرَانَ: 6) ، وَقَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49] (الشُّورَى: 49) الْآيَةَ، وَيُؤْتَى بِالْأَرْزَاقِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَتُسَبِّحُهُ الْمَلَائِكَةُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، قَالَ: فَهَذَا مِنْ شَأْنِكُمْ وَشَأْنِ رَبِّكُمْ " وَلَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا تَوْقِيتُ مَا يَنْظُرُ فِيهِ مِنَ الْأَرْحَامِ بِمُدَّةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَكُونُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ؛ فَخَرَّجَ الَّالِكَائِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ إِذَا مَكَثَتِ النُّطْفَةُ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاءَهَا الْمَلَكُ فَاخْتَلَجَهَا، ثُمَّ عَرَجَ بِهَا إِلَى الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: اخْلُقْ يَا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، فَيَقْضِي اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِهِ، ثُمَّ تُدْفَعُ إِلَى الْمَلَكِ عِنْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَسَقْطٌ أَمْ تَمَامٌ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَاقِصُ الْأَجَلِ أَمْ تَامُّ الْأَجَلِ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَوَاحِدٌ أَمْ تَوْءَمٌ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ اقْطَعْ لَهُ رِزْقَهُ، فَيَقْطَعُ لَهُ رِزْقَهُ مَعَ أَجَلِهِ، فَيَهْبِطُ بِهِمَا جَمِيعًا. فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُسِمَ لَهُ. وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: إِنَّ الْمَنِيَّ يَمْكُثُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَأْتِيهِ مَلَكُ النُّفُوسِ، فَيَعْرُجُ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا هُوَ قَاضٍ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَكْتُبُ مَا هُوَ لَاقٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَلَا أَبُو ذَرٍّ مِنْ فَاتِحَةِ سُورَةِ التَّغَابُنِ إِلَى قَوْلِهِ {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن: 3] (التَّغَابُنِ: 3) . وَهَذَا كُلُّهُ يُوَافِقُ مَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كِتَابَةَ الْمَلَكِ تَكُونُ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَأَنَّ إِسْنَادَهُ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَأَثْبَتَ الْكِتَابَةَ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ يُقَالُ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّ إِحْدَاهُمَا فِي السَّمَاءِ وَالْأُخْرَى فِي بَطْنِ الْأُمِّ، وَالْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهَا مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجِنَّةِ، فَبَعْضُهُمْ يُكْتَبُ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَبَعْضُهُمْ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ لَفْظَةَ " ثُمَّ " فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَرْتِيبُ الْإِخْبَارِ، لَا تَرْتِيبُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ رَجَّحَ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ وَقَالَ: إِنَّمَا أَخَّرَ ذِكْرَهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى مَا بَعْدَ ذِكْرِ الْمُضْغَةِ وَإِنْ ذُكِرَتْ بِلَفْظِ " ثُمَّ " لِئَلَّا يَنْقَطِعَ ذِكْرُ الْأَطْوَارِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَنْقَلِبُ فِيهَا الْجَنِينُ وَهُوَ كَوْنُهُ: نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً، فَإِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ أَعْجَبُ وَأَحْسَنُ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَعْطُوفُ مُتَقَدِّمًا عَلَى بَعْضِهَا فِي التَّرْتِيبِ، وَاسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ - ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7 - 9] (السَّجْدَةِ: 7 - 9) ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَسْوِيَتَهُ، وَنَفْخَ الرُّوحِ فِيهِ، كَانَ قَبْلَ جَعْلِ نَسْلِهِ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرُهُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَبْدَأِ خَلْقِ آدَمَ وَخَلْقِ نَسْلِهِ، عَطَفَ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ تَسْوِيَةِ آدَمَ وَنَفْخَ الرُّوحِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ مِنْ طِينٍ وَبَيْنَ خَلْقِ نَسْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ تُكْتَبُ بَيْنَ عَيْنَيِ الْجَنِينِ، فَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا خَلَقَ اللَّهُ النَّسَمَةَ، قَالَ مَلَكُ الْأَرْحَامِ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ قَالَ: فَيَقْضِي اللَّهُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا هُوَ لَاقٍ حَتَّى النَّكْبَةَ يُنْكَبُهَا.» وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْمُتَقَدِّمُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَلَكَ يَكْتُبُ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ، وَلَعَلَّهُ يَكْتُبُ فِي صَحِيفَةٍ، وَيَكْتُبُ بَيْنَ عَيْنَيِ الْوَلَدِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَقْتَرِنُ بِهَذِهِ الْكِتَابَةِ أَنَّهُ يُخْلَقُ مَعَ الْجَنِينِ مَا تَضَمَّنَتْ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، بَعَثَ مَلَكًا، فَدَخَلَ الرَّحِمَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، مَاذَا؟ فَيَقُولُ: غُلَامٌ أَوْ جَارِيَةٌ أَوْ مَا شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ فِي الرَّحِمِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا خَلْقُهُ؟ مَا خَلَائِقُهُ؟ فَيَقُولُ: كَذَا كَذَا، فَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ يُخْلَقُ مَعَهُ فِي الرَّحِمِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْقَدَرِ " وَالْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ ". وَبِكُلِّ حَالٍ، فَهَذِهِ الْكِتَابَةُ الَّتِي تُكْتَبُ لِلْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ غَيْرُ كِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ السَّابِقَةِ لِخَلْقِ الْخَلَائِقِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] (الْحَدِيدِ: 22) ، كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.» وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرْى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.» وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَا رُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَلَكَ إِذَا سَأَلَ عَنْ حَالِ النُّطْفَةِ، أُمِرَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْكِتَابِ السَّابِقِ، وَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ تَجِدُ فِيهِ قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، وَقَدْ تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ بِذِكْرِ الْكِتَابِ السَّابِقِ، بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ،
فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا، نَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا، فَكُلُّ مُيَسَّرٍ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] الْآيَتَيْنِ (اللَّيْلِ: 5) » . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ قَدْ سَبَقَ الْكِتَابُ بِهِمَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلسَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاوَةِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيهِ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ بِحَسَبَ خَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ " «فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَذَلِكَ رَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ، قَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَيْضًا.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» . وَفِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا «الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، كَالْوِعَاءِ، إِذَا طَابَ أَعْلَاهُ، طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ، خَبُثَ أَسْفَلُهُ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ، أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ، فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لِيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ عُمُرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ، لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ، فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ، فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَمَاتَ فَدَخَلَهَا» . وَخَرَّجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟ فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا، فَقَالَ: لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: " هَذَا الْكِتَابُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ أَبَدًا " ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: " هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا " فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرًا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: " سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَادَ فِيهِ: " «صَاحِبُ الْجَنَّةِ مَخْتُومٌ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَصَاحِبُ النَّارِ مَخْتُومٌ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَقَدْ يَسْلُكُ بِأَهْلِ السَّعَادَةِ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّقَاءِ حَتَّى يُقَالَ: مَا أَشْبَهَهُمْ بِهِمْ، بَلْ هُمْ مِنْهُمْ، وَتُدْرِكُهُمُ السَّعَادَةُ فَتَسْتَنْقِذُهُمْ، وَقَدْ يَسْلُكُ بِأَهْلِ الشَّقَاءِ طَرِيقَ أَهْلِ السَّعَادَةِ حَتَّى يُقَالَ: مَا أَشْبَهَهُمْ بِهِمْ بَلْ هُمْ مِنْهُمْ وَيُدْرِكُهُمُ الشَّقَاءُ، مَنْ كَتَبَهُ اللَّهُ سَعِيدًا فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَعْمِلَهُ بِعَمَلٍ يُسْعِدُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَلَوْ بِفَوَاقِ نَاقَةٍ، ثُمَّ قَالَ: الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا» " وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ وَفِي أَصْحَابِهِ رَجُلٌ لَا يَدَعُ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا أُصَاحِبُهُ، فَاتَّبَعَهُ، فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» " زَادَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةً لَهُ " «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» ". وَقَوْلُهُ: " فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَاطِنَ الْأَمْرِ يَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ خَاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ بَاطِنَةٍ لِلْعَبْدِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ عَمَلٍ سَيِّئٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الْخَصْلَةُ الْخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَعْمَلُ الرَّجُلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَفِي بَاطِنِهِ خَصْلَةٌ خَفِيَّةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، فَتَغْلِبُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْخَصْلَةُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَتُوجِبُ لَهُ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ: حَضَرْتُ رَجُلًا عِنْدَ الْمَوْتِ يُلَقَّنُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ فِي آخِرِ مَا قَالَ: هُوَ كَافِرٌ بِمَا تَقُولُ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ. فَكَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَقُولُ: اتَّقُوا الذُّنُوبَ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْهُ. وَفِي الْجُمْلَةِ: فَالْخَوَاتِيمُ مِيرَاثُ السَّوَابِقِ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَبَقَ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنْ سُوءِ الْخَوَاتِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْلَقُ مِنْ ذِكْرِ السَّوَابِقِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُلُوبَ الْأَبْرَارِ مُعَلَّقَةٌ بِالْخَوَاتِيمِ، يَقُولُونَ: بِمَاذَا يُخْتَمُ لَنَا؟ وَقُلُوبُ الْمُقَرَّبِينَ مُعَلَّقَةٌ بِالسَّوَابِقِ، يَقُولُونَ: مَاذَا سَبَقَ لَنَا. وَبَكَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبَضَ خَلْقَهُ قَبْضَتَيْنِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ» " وَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ كُنْتُ؟ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَبْكَى الْعُيُونَ مَا أَبْكَاهَا الْكِتَابُ السَّابِقُ. وَقَالَ سُفْيَانُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ: هَلْ أَبْكَاكَ قَطُّ عِلْمُ اللَّهِ فِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ: تَرَكَنِي لَا أَفْرَحُ أَبَدًا. وَكَانَ سُفْيَانُ يَشْتَدُّ قَلَقُهُ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْخَوَاتِيمِ، فَكَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أَكُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا، وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُومُ طُولَ لَيْلِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ عَلِمْتَ سَاكِنَ الْجَنَّةِ مِنْ سَاكِنِ النَّارِ، فَفِي أَيِّ الدَّارَيْنِ مَنْزِلُ مَالِكٍ؟ . وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: مَنْ خَلَا قَلْبُهُ مِنْ ذِكْرِ أَرْبَعَةِ أَخْطَارٍ، فَهُوَ مُغْتَرٌّ، فَلَا يَأْمَنُ الشَّقَاءَ: الْأَوَّلُ: خَطَرُ يَوْمِ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي، فَلَا يُعْلَمُ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ، وَالثَّانِي: حِينَ خُلِقَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، فَنُودِيَ الْمَلَكُ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَلَا يَدْرِي: أَمِنَ الْأَشْقِيَاءِ هُوَ أَمْ مِنَ السُّعَدَاءِ؟ وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ هَوْلِ الْمَطْلَعِ، وَلَا يَدْرِي أَيُبَشَّرُ بِرِضَا اللَّهِ أَوْ بِسُخْطِهِ؟ وَالرَّابِعُ: يَوْمَ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا، وَلَا يَدْرِي، أَيُّ الطَّرِيقَيْنِ يُسْلَكُ بِهِ. وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: الْمُرِيدُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْمَعَاصِي، وَالْعَارِفُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكُفْرِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ وَيَشْتَدُّ قَلَقُهُمْ وَجَزَعُهُمْ مِنْهُ، فَالْمُؤْمِنُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ الْأَصْغَرَ، وَيَخَافُ أَنْ يَغْلِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ، فَيُخْرِجُهُ إِلَى النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ دَسَائِسَ السُّوءِ الْخَفِيَّةِ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: " «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " فَقِيلَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: " نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ» " خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ فِي دُعَائِهِ أَنْ يَقُولَ: " اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَوَإِنَّ الْقُلُوبَ لَتَتَقَلَّبُ؟ قَالَ: " نَعَمْ؛ مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَإِنْ شَاءَ عَزَّ وَجَلَّ، أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ " قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تُعَلِّمُنِي دَعْوَةً أَدْعُو بِهَا لِنَفْسِي؟ قَالَ: " بَلَى، قُولِي اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا أَحْيَيْتَنِي» ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يَصْرِفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ "، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ»
".

Tidak ada komentar:

Posting Komentar

MUHASABATUN NAFS.

KOREKSI DIRI DAN ISTIQAMAH SETELAH RAMADHAN. Apakah kita yakin bahwa amal kita pasti diterima..?, kita hanya bisa berharap semoga Allah mene...