Senin, 10 April 2017

JAMIUL ULUM WAL HIKAM HADIS KE 15



[الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ]
الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا: " فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ " وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا: " فَلْيُحْسِنْ قِرَى ضَيْفِهِ " وَفِي بَعْضِهَا: " فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " بَدَلَ ذِكْرِ الْجَارِ.
وَخَرَّجَاهُ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ.
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» " فَلْيَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ بِالصَّبْرِ وَالسَّمَاحَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ: الصَّبْرُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَالسَّمَاحَةُ بِالطَّاعَةِ.
وَأَعْمَالُ الْإِيمَانِ تَارَةً تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ، كَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْخَيْرِ، وَالصَّمْتُ عَنْ غَيْرِهِ.
وَتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ عِبَادِهِ كَإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَإِكْرَامِ الْجَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ أَذَاهُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ يُؤْمَرُ بِهَا الْمُؤْمِنُ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ الْخَيْرِ وَالصَّمْتُ عَمَّا سِوَاهُ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْوَدَ بْنِ أَصْرَمَ الْمُحَارِبِيِّ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: " هَلْ تَمْلِكُ لِسَانَكَ؟ " قُلْتُ: مَا أَمْلِكُ إِذَا لَمْ أَمْلِكْ لِسَانِي؟ قَالَ: " فَهَلْ تَمْلِكُ يَدَكَ؟ " قُلْتُ: فَمَا أَمْلِكُ إِذَا لَمْ أَمْلِكْ يَدِي؟ قَالَ: " فَلَا تَقُلْ بِلِسَانِكَ إِلَّا مَعْرُوفًا، وَلَا تَبْسُطْ يَدَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ» ".
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اسْتِقَامَةَ اللِّسَانِ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» .
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَخْزِنَ مِنْ لِسَانِهِ» وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تَزَالَ سَالِمًا مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ، كُتِبَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» . وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَمَتَ نَجَا» .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» .
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ» .
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» .
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ أُمِّهِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَدْنُو مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، فَيَتَبَاعَدُ بِهَا أَبْعَدَ مِنْ صَنْعَاءَ» ".
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا سُخْطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ حَدِيثَ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَلَامُ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ أُمِرَ بِقَوْلِ الْخَيْرِ، وَبِالصَّمْتِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ كَلَامٌ يَسْتَوِي قَوْلُهُ وَالصَّمْتُ عَنْهُ، بَلْ إِمَّا
أَنْ يَكُونَ خَيْرًا، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَيْرٍ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِالصَّمْتِ عَنْهُ، وَحَدِيثُ مُعَاذٍ وَأُمِّ حَبِيبَةَ يَدُلَّانِ عَلَى هَذَا.
وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «يَا مُعَاذُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَهَلْ تَقُولُ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] ، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] [ق: 17 - 18] وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالَّذِي عَنْ شِمَالِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ وَالْمَلَكُ عَنْ يَمِينِهِ» .
وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ عَنْ يَمِينِهِ كَاتِبَ الْحَسَنَاتِ» ".
وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَكْتُبُ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ، أَوْ لَا يَكْتُبُ إِلَّا مَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَكْتُبُ كُلَّ مَا
تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ حَتَّى إِنَّهُ لَيَكْتُبُ قَوْلَهُ: أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ ذَهَبْتُ وَجِئْتُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَرَضَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ فَأَقَرَّ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَأَلْقَى سَائِرَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] [الرَّعْدِ: 39] .
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: رَكِبَ رَجُلٌ الْحِمَارَ، فَعَثَرَ بِهِ، فَقَالَ: تَعِسَ الْحِمَارُ، فَقَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ: مَا هِيَ حَسَنَةٌ أَكْتُبُهَا، وَقَالَ صَاحِبُ الشِّمَالِ: مَا هِيَ سَيِّئَةٌ فَأَكْتُبُهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ: مَا تَرَكَ صَاحِبُ الْيَمِينِ مِنْ شَيْءٍ، فَاكْتُبْهُ، فَأَثْبَتَ فِي السَّيِّئَاتِ " تَعِسَ الْحِمَارُ ".
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ، فَهُوَ سَيِّئَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ قَدْ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَعُ مُكَفِّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ زَمَانَهَا قَدْ خَسِرَهُ صَاحِبُهَا حَيْثُ ذَهَبَتْ بَاطِلًا، فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ حَسْرَةٌ فِي الْقِيَامَةِ وَأَسَفٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَوْعُ عُقُوبَةٍ.
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ، إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً» .
وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ
يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: «مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةً، وَمَنِ اضْطَجَعَ مُضْطَجَعًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ، كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةً» زَادَ النَّسَائِيُّ: «وَمَنْ قَامَ مَقَامًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ، كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةً» وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَجْلِسُونَ مَجْلِسًا لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ» .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا، فَتَفَرَّقُوا قَبْلَ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ، إِلَّا تَفَرَّقُوا عَنْ أَنْتَنِ مِنْ رِيحِ الْجِيفَةِ، وَكَانَ مَجْلِسُهُمْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِغَفْلَتِهِمْ، وَمَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا، فَذَكَرُوا اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، إِلَّا أَنْ يَتَفَرَّقُوا عَنْ أَطْيَبِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَكَانَ مَجْلِسُهُمْ يَشْهَدُ لَهُمْ بِذِكْرِهِمْ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يُعْرَضُ عَلَى ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَاتُ عُمُرِهِ، فَكُلُّ سَاعَةٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهَا تَتَقَطَّعُ نَفْسُهُ عَلَيْهَا حَسَرَاتٍ.
وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «مَا مِنْ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِابْنِ آدَمَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهَا بِخَيْرٍ، إِلَّا حَسِرَ عِنْدَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
(1/338)


فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِخَيْرٍ مِنَ الْكَلَامِ، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنَ التَّكَلُّمِ بِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مُمَا لَابُدَّ مِنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَفُضُولَ الْكَلَامِ، حَسْبُ امْرِئٍ مَا بَلَغَ حَاجَتَهُ. وَعَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: يَهْلَكُ النَّاسُ فِي فُضُولِ الْمَالِ وَالْكَلَامِ.
وَأَيْضًا قَالَ فَإِنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ يُوجِبُ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ كَمَا فِي " التِّرْمِذِيِّ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» ".
وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ، كَثُرَ سَقْطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقْطُهُ، كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ وَخَرَّجَهُ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
(1/339)


مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ: إِنَّمَا الْكَلَامُ أَرْبَعَةٌ: أَنْ تَذْكُرَ اللَّهَ، وَتَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَتُسْأَلَ عَنْ عِلْمٍ فَتُخْبِرَ بِهِ، أَوْ تَكَلَّمَ فِيمَا يَعْنِيكَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكَ.
وَقَالَ رَجُلٌ لِسَلْمَانَ: أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَكَلَّمْ، قَالَ: مَا يَسْتَطِيعُ مَنْ عَاشَ فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ، قَالَ: فَإِنْ تَكَلَّمْتَ، فَتَكَلَّمْ بِحَقٍّ أَوِ اسْكُتْ.
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْخُذُ بِلِسَانِهِ وَيَقُولُ: هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا عَلَى الْأَرْضِ أَحَقُّ بِطُولِ سِجْنٍ مِنَ اللِّسَانِ وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَجْمَعَتِ الْحُكَمَاءُ عَلَى أَنَّ رَأْسَ الْحُكْمِ الصَّمْتُ.
وَقَالَ شُمَيْطُ بْنُ عَجْلَانَ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا سَكَتَّ، فَأَنْتَ سَالِمٌ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ، فَخُذْ حِذْرَكَ، إِمَّا لَكَ وَإِمَّا عَلَيْكَ وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْكَلَامِ بِالْخَيْرِ، وَالسُّكُوتِ عَمَّا لَيْسَ بِخَيْرٍ، وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَالَ: فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ،
(1/340)


وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ، فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ» .
فَلَيْسَ الْكَلَامُ مَأْمُورًا بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا السُّكُوتُ كَذَلِكَ، بَلْ لَابُدَّ مِنَ الْكَلَامِ بِالْخَيْرِ وَالسُّكُوتِ عَنِ الشَّرِّ، وَكَانَ السَّلَفُ كَثِيرًا يَمْدَحُونَ الصَّمْتَ عَنِ الشَّرِّ، وَعَمَّا لَا يُعْنِي لِشِدَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ، وَذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ النَّاسُ كَثِيرًا، فَكَانُوا يُعَالِجُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيُجَاهِدُونَهَا عَلَى السُّكُوتِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِمْ.
قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مَا حَجٌّ وَلَا رِبَاطٌ وَلَا جِهَادٌ أَشَدُّ مِنْ حَبْسِ اللِّسَانِ، وَلَوْ أَصْبَحْتَ يَهُمُّكَ لِسَانُكَ، أَصْبَحْتَ فِي غَمٍّ شَدِيدٍ، وَقَالَ: سِجْنُ اللِّسَانِ سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَلَوْ أَصْبَحْتَ يَهُمُّكَ لِسَانُكَ، أَصْبَحْتَ فِي غَمٍّ شَدِيدٍ.
وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: إِنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ فِضَّةٍ، فَإِنَّ الصَّمْتَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ: لَوْ كَانَ الْكَلَامُ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ فِضَّةٍ، فَإِنَّ الصَّمْتَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ ذَهَبٍ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْكَفَّ عَنِ الْمَعَاصِي أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ الطَّاعَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى.
وَتَذَاكَرُوا عِنْدَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ الصَّمْتُ أَوِ النُّطْقُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: الصَّمْتُ أَفْضَلُ، فَقَالَ الْأَحْنَفُ: النُّطْقُ أَفْضَلُ، لِأَنَّ فَضْلَ الصَّمْتِ لَا يَعْدُو صَاحِبَهُ، وَالْمَنْطِقُ الْحَسَنُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ.
وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّامِتُ عَلَى عِلْمٍ كَالْمُتَكَلِّمِ عَلَى عِلْمٍ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى عِلْمٍ
(1/341)


أَفْضَلَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَالًا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِلنَّاسِ، وَهَذَا صَمْتُهُ لِنَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَيْفَ بِفِتْنَةِ النُّطْقِ؟ فَبَكَى عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ بُكَاءً شَدِيدًا.
وَلَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا فَرَقَّ النَّاسُ، وَبَكَوْا، فَقَطَعَ خُطْبَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَتْمَمْتَ كَلَامَكَ رَجَوْنَا أَنْ يَنْفَعَ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ الْقَوْلَ فِتْنَةٌ وَالْفِعْلُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِ مِنَ الْقَوْلِ.
وَكُنْتُ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ قَدْ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَمِعْتُهُ يَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَظُنُّ أَنِّي فَاوَضْتُهُ فِيهَا وَفَهِمْتُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْخَيْرِ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ ذِكْرُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قَالَ: الصَّمْتُ مَنَامُ الْعَقْلِ، وَالنُّطْقُ يَقَظَتُهُ، وَلَا يَتِمُّ حَالٌ إِلَّا بِحَالٍ، يَعْنِي: لَابُدَّ مِنَ الصَّمْتِ وَالْكَلَامِ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ فَقِيهُ أَهْلِ مِصْرَ فِي وَقْتِهِ، وَكَانَ أَحَدَ الْحُكَمَاءِ: إِذَا كَانَ الْمَرْءُ يُحَدِّثُ فِي مَجْلِسٍ، فَأَعْجَبَهُ الْحَدِيثُ فَلْيَسْكُتْ، وَإِنْ كَانَ سَاكِتًا، فَأَعْجَبَهُ السُّكُوتُ، فَلْيُحَدِّثْ، وَهَذَا حَسَنٌ فَإِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ سُكُوتُهُ وَحَدِيثُهُ لِمُخَالَفَةِ هَوَاهُ وَإِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ جَدِيرًا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَتَسْدِيدِهِ فِي نُطْقِهِ وَسُكُوتِهِ، لِأَنَّ كَلَامَهُ وَسُكُوتَهُ يَكُونُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " «عَلَامَةُ الطُّهْرِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُ الْعَبْدِ عِنْدِي مُعَلَّقًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَنْسَنِي عَلَى حَالٍ، وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ، مَنَنْتُ عَلَيْهِ بِالِاشْتِغَالِ بِي كَيْ لَا يَنْسَانِي، فَإِذَا نَسِيَنِي، حَرَّكْتُ قَلْبَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِي، وَإِنْ سَكَتَ، سَكَتَ لِي، فَذَلِكَ الَّذِي تَأْتِيهِ الْمَعُونَةُ مِنْ عِنْدِي» " خَرَّجَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجُنَيْدِ.
(1/342)


وَبِكُلِّ حَالٍ، فَالْتِزَامُ الصَّمْتِ مُطْلَقًا، وَاعْتِقَادُهُ قُرْبَةً إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ، كَالْحَجِّ وَالِاعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِ الصَّمْتِ. وَخَرَّجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّمْتِ فِي الْعُكُوفِ» ، وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ» . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِامْرَأَةٍ حَجَّتْ مُصْمَتَةً: إِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ أَنَّهُ قَالَ: صَوْمُ الصَّمْتِ حَرَامٌ.

الثَّانِي مِمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُؤْمِنِينَ إِكْرَامُ الْجَارِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " النَّهْيُ عَنْ أَذَى الْجَارِ " فَأَمَّا أَذَى الْجَارِ، فَمُحَرَّمٌ فَإِنَّ الْأَذَى بِغَيْرِ حَقٍّ مُحَرَّمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْجَارِ هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «سُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَكَ قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» وَفِي " مُسْنَدِ
(1/343)


الْإِمَامِ أَحْمَدَ "، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟ قَالُوا: حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟ قَالُوا: حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ: لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ» .
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» .
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةً تُصَلِّي بِاللَّيْلِ، وَتَصُومُ النَّهَارَ وَفِي لِسَانِهَا شَيْءٌ تُؤْذِي جِيرَانَهَا سَلِيطَةً، قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ فِي النَّارِ» «وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانَةً تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ، وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ» وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: " «وَلَا تُؤْذِي بِلِسَانِهَا جِيرَانَهَا» ".
(1/344)


وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ لَهُ: اطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ بِهِ فَيَلْعَنُونَهُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ؟ قَالَ يَلْعَنُونِي، قَالَ: فَقَدْ لَعَنَكَ اللَّهُ قَبْلَ النَّاسِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي لَا أَعُودُ» . وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: " فَقَدْ لَعَنَكَ اللَّهُ قَبْلَ النَّاسِ ".
وَخَرَّجَ الْخَرَائِطِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: «دَخَلَتْ شَاةٌ لِجَارَةٍ لَنَا، فَأَخَذَتْ قُرْصَةً لَنَا، فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَأَجْتَذَبْتُهَا مِنْ بَيْنِ لِحْيَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَا قَلِيلَ مِنْ أَذَى الْجَارِ» .
فَأَمَّا إِكْرَامُ الْجَارِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ، فَمَأْمُورٌ بِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
(1/345)


وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] [النِّسَاءِ: 36] ، فَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ ذِكْرِ حَقِّهِ عَلَى الْعَبْدِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى الْعِبَادِ أَيْضًا، وَجَعَلَ الْعِبَادَ الَّذِينَ أُمِرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ قَرَابَةٌ، وَخُصَّ مِنْهُمُ الْوَالِدَيْنِ بِالذِّكْرِ؛ لِامْتِيَازِهِمَا عَنْ سَائِرِ الْأَقَارِبِ بِمَا لَا يُشْرِكُونَهُمَا فِيهِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا السَّبَبَ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ وَلَهُمَا حَقُّ التَّرْبِيَةِ وَالتَّأْدِيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
الثَّانِي: مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الْإِحْسَانِ وَهُوَ نَوْعَانِ: مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ لِضَعْفِ بَدَنِهِ، وَهُوَ الْيَتِيمُ، وَمَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ لِقِلَّةِ مَالِهِ، وَهُوَ الْمِسْكِينُ.
وَالثَّالِثُ: مَنْ لَهُ حَقُّ الْقُرْبِ وَالْمُخَالَطَةِ، وَجَعَلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: جَارٌ ذُو قُرْبَى، وَجَارٌ جُنُبٌ، وَصَاحِبٌ بِالْجَنْبِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْجَارُ ذُو الْقُرْبَى: الْجَارُ الَّذِي لَهُ قَرَابَةٌ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ: الْأَجْنَبِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ الْمَرْأَةَ فِي الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَهَا فِي الْجَارِ الْجُنُبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ الرَّفِيقَ فِي السَّفَرِ فِي الْجَارِ الْجُنُبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ» .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْجَارُ ذُو الْقُرْبَى: الْجَارُ الْمُسْلِمُ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ: الْكَافِرُ، وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الْجِيرَانِ حَقًّا، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْجِيرَانِ حَقًّا، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، فَجَارٌ مُشْرِكٌ، لَا رَحِمَ لَهُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا
(1/346)


الَّذِي لَهُ حَقَّانِ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ، لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ، فَلَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الرَّحِمِ "، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مُتَّصِلَةٍ وَمُرْسَلَةٍ، وَلَا تَخْلُو كُلُّهَا مِنْ مَقَالٍ.
وَقِيلَ: الْجَارُ ذُو الْقُرْبَى: هُوَ الْقَرِيبُ الْجِوَارِ الْمُلَاصِقُ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ: الْبَعِيدُ الْجِوَارِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " «عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا بَابًا» .
وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: حَدُّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا، وَقِيلَ: مُسْتَدَارُ أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
وَفِي مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ «رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارًا لَهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يُنَادِيَ: " أَلَا إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ» " وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرْبَعُونَ هَكَذَا، وَأَرْبَعُونَ هَكَذَا، وَأَرْبَعُونَ هَكَذَا، وَأَرْبَعُونَ هَكَذَا، يَعْنِي مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ.
(1/347)


وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَمَّنْ يَطْبُخُ قَدْرًا وَهُوَ فِي دَارِ السَّبِيلِ، وَمَعَهُ فِي الدَّارِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ نَفْسًا: يَعْنِي أَنَّهُمْ سُكَّانٌ مَعَهُ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ، وَبِمَنْ يَعُولُ، فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ، أُعْطِيَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ كُلَّهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: لَعَلَّ الَّذِي هُوَ جَارُهُ يَتَهَاوَنُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ مَوْقِعٌ؟ فَرَأَى أَنَّهُ لَا يُبْعَثُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ، فَفَسَّرَهُ طَائِفَةٌ بِالزَّوْجَةِ، وَفَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالرَّفِيقِ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يُرِيدُوا إِخْرَاجَ الصَّاحِبِ الْمُلَازِمِ فِي الْحَضَرِ وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ صُحْبَةَ السَّفَرِ تَكْفِي، فَالصُّحْبَةُ الدَّائِمَةُ فِي الْحَضَرِ أَوْلَى، وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّفِيقُ الصَّالِحُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ جَلِيسُكَ فِي الْحَضَرِ، وَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَعْتَرِيكَ وَيَلُمُّ بِكَ لِتَنْفَعَهُ.
وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» .
الرَّابِعُ: مَنْ هُوَ وَارِدٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، غَيْرَ مُقِيمٍ عِنْدَهُ، وَهُوَ ابْنُ السَّبِيلِ، يَعْنِي الْمُسَافِرَ إِذَا وَرَدَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالضَّيْفِ: يَعْنِي بِهِ ابْنَ السَّبِيلِ إِذَا نَزَلَ ضَيْفًا عَلَى أَحَدٍ.
وَالْخَامِسُ: مِلْكُ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ كَثِيرًا وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ


إِلَيْهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّ آخِرَ مَا وَصَّى بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: " «الصَّلَاةُ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» "، وَأَدْخَلَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْبَهَائِمِ.
وَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي إِكْرَامِ الْجَارِ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» .
فَمِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ مُوَاسَاتُهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَشْبَعُ الْمُؤْمِنُ دُونَ جَارِهِ» وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا آمَنَ مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ طَاوِيًا» .
وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ جَارَانِ» .
وَفِي كِتَابِ " الْأَدَبِ " لِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعَلِّقٌ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ» ".
وَخَرَّجَ الْخَرَائِطِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَ جَارِهِ مَخَافَةً عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُؤْمِنٍ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْجَارِ؟ إِذَا اسْتَعَانَكَ أَعَنْتَهُ، وَإِذَا اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِذَا افْتَقَرَ، عُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَإِذَا مَاتَ اتَّبَعْتَ جِنَازَتَهُ، وَلَا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ، فَتَحْجُبُ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تُؤْذِهِ بِقُتَارِ قَدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا، وَإِنِ اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً، فَاهْدِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَأَدْخِلْهَا سِرًّا، وَلَا يَخْرُجْ بِهَا وَلَدُكَ لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ» "
وَرَفْعُ هَذَا الْكَلَامِ مُنْكَرٌ، وَلَعَلَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ.
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " «أَدْنَى حَقِّ الْجِوَارِ أَنْ لَا تُؤْذِي جَارَكَ بِقُتَارِ قَدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَقْدَحَ لَهُ مِنْهَا» ".
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " «أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا طَبَخْتُ مَرَقًا، فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى أَهْلِ بَيْتِ جِيرَانِكَ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ» ".
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» ".
وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَالتِّرْمِذِيِّ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً، فَقَالَ: هَلْ أَهْدَيْتُمْ مِنْهَا لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» ".
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ،
وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» .

وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْجَارَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُمَكِّنَ جَارَهُ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِهِ إِذَا احْتَاجَ الْجَارُ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَضُرَّ بِجِدَارِهِ، لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَاسِيَهُ مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ بِمَا لَا يَضُرُّ بِهِ إِذَا عَلِمَ حَاجَتَهُ قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إِنِّي أَسْمَعُ السَّائِلَ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُ: إِنِّي جَائِعٌ، فَقَالَ: قَدْ يَصْدُقُ وَقَدْ يَكْذِبُ. قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ لِي جَارٌ أَعْلَمُ أَنَّهُ يَجُوعُ؟ قَالَ: تُوَاسِيهِ، قُلْتُ: إِذَا كَانَ قُوَّتِي رَغِيفَيْنِ؟ قَالَ: تُطْعِمُهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ الْجَارُ.
وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْأَغْنِيَاءُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْمُوَاسَاةُ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ قَوْمٌ يَضَعُونَ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ كَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، قُلْتُ: إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ قَمِيصَانِ، أَوْ قُلْتُ: جُبَّتَانِ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُوَاسَاةُ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ فَضْلًا.
وَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ فِي وُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ مِنَ الْفَاضِلِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بِالْجَارِ، وَنَصُّهُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْجَارِ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ فِي السُّؤَالِ يَكْذِبُونَ أَحَبُّ إِلَيْنَا لَوْ صَدَقُوا مَا وَسِعَنَا إِلَّا مُوَاسَاتَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُوَاسَاةِ الْجَائِعِ مِنَ الْجِيرَانِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي " الصَّحِيحِ "، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ»
وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنِ [ابْنِ] عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ أَنَّهُ يَمْنَعُ الْجَارَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي خَاصِّ مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ بِجَارِهِ، فَيَجِبُ عِنْدَهُمَا كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْجَارِ بِمَنْعِ إِحْدَاثِ الِانْتِفَاعِ الْمُضِرِّ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُنْتَفِعُ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِخَاصِّ مِلْكِهِ، وَيَجِبُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنْ يَبْذُلَ لِجَارِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَذْلِهِ، وَأَعْلَى مِنْ هَذَيْنِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَى جَارِهِ، وَلَا يُقَابِلَهُ بِالْأَذَى قَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفَّ الْأَذَى، وَلَكِنَّ حُسْنَ الْجِوَارِ احْتِمَالُ الْأَذَى، وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ يَرْفَعُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ» " خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو إِلَيْهِ جَارَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُفَّ أَذَاكَ عَنْهُ، وَاصْبِرْ لِأَذَاهُ، فَكَفَى بِالْمَوْتِ مُفَرِّقًا» " خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.
الثَّالِثُ مِمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ: إِكْرَامُ الضَّيْفِ، وَالْمُرَادُ إِحْسَانِ ضِيَافَتِهِ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، قَالَ: «أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ قَالُوا: وَمَا جَائِزُتُهُ؟ قَالَ: " يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " قَالَ: وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ» ".
وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُؤْثِمَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُؤْثِمُهُ؟ قَالَ: يُقِيمُ وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ» .
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ. قَالَهَا ثَلَاثًا، قَالُوا: وَمَا إِكْرَامَةُ الضَّيْفِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ» .

فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ جَائِزَةَ الضَّيْفِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَنَّ الضِّيَافَةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَائِزَةِ وَالضِّيَافَةِ، وَكَذَا الْجَائِزَةُ قَدْ وَرَدَ فِي تَأْكِيدِهَا أَحَادِيثُ أُخَرُ، فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعَدِّ يَكْرِبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ، فَهُوَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، إِنْ شَاءَ اقْتَضَى، وَإِنْ شَاءَ تُرِكَ» ". وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ: " «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ".
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «أَيُّمَا رَجُلٍ أَضَافَ قَوْمًا، فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَإِنَّ نَصْرَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَةٍ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ» ".
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يُقْرُونَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ، فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» .
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: مَنْ لَمْ يُضِفْ، فَلَيْسَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ: مَنْ لَمْ يُكْرِمْ ضَيْفَهُ، فَلَيْسَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِقَوْمٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ، فَاسْتَضَافَهُمْ، فَلَمْ يُضِيفُوهُ، فَتَنَحَّى وَنَزَلَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى طَعَامِهِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تُنْزِلُونَ الضَّيْفَ وَلَا تُجِيبُونَ الدَّعْوَةَ مَا أَنْتُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ عَلَى شَيْءٍ، فَعَرَفَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ عَافَاكَ اللَّهُ، قَالَ: هَذَا شَرٌّ وَشَرٌّ، لَا تُنْزِلُونَ إِلَّا مَنْ تَعْرِفُونَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى هُدْبَةٍ فِي ثَوْبِهِ.
وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِذَلِكَ إِذَا مَنَعَهُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَاجِبٌ، وَهَلْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ مِنْ مَالِهِ إِذَا مَنَعَهُ، أَوْ يَرْفَعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ عَنْهُ.
وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ: لَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قِرَاهُ مِنْهُمْ قَهْرًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ دُونَ مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَوْ نَزَلَ الضَّيْفُ بِالْعَبْدِ أَضَافَهُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ، وَلِلضَّيْفِ أَنْ يَأْكُلَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ سَيِّدَهُ أَذِنَ لَهُ، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ وَاجِبَةٌ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَجَابُوا دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا، فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ ابْتِدَاءً جَازَ إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ، فَإِضَافَتُهُ لِمَنْ نَزَلَ بِهِ أَوْلَى.

وَمَنَعَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ دَعْوَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِدُونِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَنَقَلَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ لِلْغُزَاةِ خَاصَّةً بِمَنْ مَرُّوا بِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ وُجُوبُهَا لِكُلِّ ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ.
وَاخْتُلِفَ قَوْلُهُ: هَلْ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى أَمْ تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْقُرَى وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ يَمُرُّ بِهِمُ الْمُسَافِرُونَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ عَنْهُ.
وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ: أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَخَصَّ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْوُجُوبَ لِلْمُسْلِمِ، كَمَا لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
فَأَمَّا الْيَوْمَانِ الْآخَرَانِ، وَهُمَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ، فَهُمَا تَمَامُ الضِّيَافَةِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا الْجَائِزَةُ الْأُولَى، وَقَالَ: قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْجَائِزَةِ، وَالضِّيَافَةِ، وَالْجَائِزَةُ أَوْكَدُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَوْجَبَ الضِّيَافَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: مِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى، وَالْآمِدِيُّ، وَمَا بَعْدَ الثَّلَاثِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الضِّيَافَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الْأُولَى، وَرَدَّهُ أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ» ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّ هَذَا، لَكَانَ أَرْبَعَةً.
قُلْتُ: وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] [فُصِّلَتْ: 9 - 10] وَالْمُرَادُ فِي تَمَامِ الْأَرْبَعَةِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُحْسِنْ قِرَى ضَيْفِهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا قِرَى الضَّيْفِ؟ قَالَ: ثَلَاثٌ، فَمَا كَانَ بَعْدُ، فَهُوَ صَدَقَةٌ» .
قَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ: عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَ لَهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنَ الطَّعَامِ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُهُ هُوَ وَعِيَالُهُ، وَفِي تَمَامِ الثَّلَاثِ يُطْعِمُهُمْ مِنْ طَعَامِهِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ سَلْمَانَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ، وَنَقَلَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ يُكْرِمُهُ وَيُتْحِفُهُ وَيَخُصُّهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ضِيَافَةً، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْتَنِعُ مِنَ الْأَكْلِ مِنْ مَالِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيَأْمُرُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ. وَلِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ يَأْمُرَ الضَّيْفَ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّهُ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُخْرِجَهُ» يَعْنِي يُقِيمَ عِنْدَهُ حَتَّى يُضَيِّقَ عَلَيْهِ، لَكِنْ هَلْ هَذَا فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَمْ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا؟ فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ، وَأَمَّا فِي مَا هُوَ وَاجِبٌ وَهُوَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ فَيَنْبَنِى عَلَى أَنَّهُ هَلْ تَجِبُ الضِّيَافَةُ عَلَى مَنْ لَا يَجِدُ شَيْئًا أَمْ لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ وَجَدَ مَا يُضِيفُ بِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَجِدُ مَا يُضِيفُ بِهِ - وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، مِنْهُمْ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ - لَمْ يَحِلَّ لِلضَّيْفِ أَنْ يَسْتَضِيفَ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ ضِيَافَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا» فَإِذَا نُهِيَ الْمُضِيفُ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْمُوَاسَاةُ لِلضَّيْفِ إِلَّا بِمَا عِنْدَهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا إِذَا آثَرَ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا فَعَلَ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] [الْحَشْرِ: 9] فَذَلِكَ مَقَامُ فَضْلٍ وَإِحْسَانٍ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَلَوْ عَلِمَ الضَّيْفُ أَنَّهُمْ لَا يُضِيفُونَهُ إِلَّا بِقُوَّتِهِمْ وَقُوتِ صِبْيَانِهِمْ، وَأَنَّ الصِّبْيَةَ يَتَأَذَّوْنَ بِذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِضَافَتُهُمْ حِينَئِذٍ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ حَتَّى يُخْرِجَهُ» .
وَأَيْضًا فَالضِّيَافَةُ نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ، فَلَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ، عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، كَنَفَقِهِ الْأَقَارِبِ، وَزَكَاةِ الْفِطْرِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ تَفْسِيرَ تَأْثِيمِهِ بِأَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ، وَقَالَ: أَرَاهُ غَلَطًا، وَكَيْفَ يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَتَّسِعُ لِقِرَاهُ، وَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَيْهِ؟ وَإِنَّمَا الْكُلْفَةُ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، قَالَ: وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَرِهَ لَهُ الْمُقَامَ عِنْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ لِئَلَّا يَضِيقَ صَدْرُهُ بِمَكَانِهِ، فَتَكُونُ الصَّدَقَةُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمَنِّ وَالْأَذَى فَيَبْطُلُ أَجْرَهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ تَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ بِمَا أَنْكَرَهُ، وَإِنَّمَا وَجْهُهُ أَنَّهُ أَقَامَ عِنْدَهُ وَلَاشَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ، فَرُبَّمَا دَعَاهُ ضِيقُ صَدْرِهِ بِهِ، وَحَرَّجَهُ إِلَى مَا يَأْثَمُ بِهِ فِي قَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِ قِرَاهُ مَعَ عَجْزِهِ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
 





Tidak ada komentar:

Posting Komentar

MUHASABATUN NAFS.

KOREKSI DIRI DAN ISTIQAMAH SETELAH RAMADHAN. Apakah kita yakin bahwa amal kita pasti diterima..?, kita hanya bisa berharap semoga Allah mene...