Senin, 10 April 2017

JAMIUL ULUM WAL HIKAM HADIS KE 19



[الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ]

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ
«عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: «احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَنَشِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ مَعَ إِسْنَادَيْنِ آخَرَيْنِ مُنْقَطِعَيْنِ وَلَمْ يُمَيِّزْ لَفْظَ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَلَفْظُ حَدِيثِهِ: «يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيْمُ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ
يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: " احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» .
وَهَذَا اللَّفْظُ أَتَمُّ مِنَ اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَزَاهُ إِلَى غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ، وَاللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي " مُسْنَدِهِ " بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ عَزَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي " الْأَحَادِيثِ الْكُلِّيَّةِ " الَّتِي هِيَ أَصْلُ أَرْبَعِينَ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ عَلِيٍّ وَمَوْلَاهُ عِكْرِمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْد
اللَّهِ، وَعُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَصَحُّ الطُّرُقِ كُلِّهَا طَرِيقُ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ الَّتِي خَرَّجَهَا التِّرْمِذِيُّ، كَذَا قَالَ ابْنُ مِنْدَهْ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَّى ابْنَ عَبَّاسٍ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَفِي أَسَانِيدِهَا كُلِّهَا ضَعْفٌ.
وَذَكَرَ الْعُقَيْلِيُّ أَنَّ أَسَانِيدَ الْحَدِيثِ كُلَّهَا لَيِّنَةٌ، وَبَعْضَهَا أَصْلَحُ مِنْ بَعْضٍ، وَبِكُلِّ حَالٍ، فَطَرِيقُ حَنَشٍ الَّتِي خَرَّجَهَا التِّرْمِذِيُّ حَسَنَةٌ جَيِّدَةٌ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ وَصَايَا عَظِيمَةً وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةً مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَدَبَّرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَدْهَشَنِي وَكِدْتُ أَطِيشُ، فَوَا أَسَفَا مِنَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقِلَّةِ التَّفَهُّمِ لِمَعْنَاهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ أَفْرَدْتُ لِشَرْحِهِ جُزْءًا كَبِيرًا وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا مَقَاصِدَهُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْفَظِ اللَّهَ " يَعْنِي: احْفَظْ حُدُودَهُ، وَحُقُوقَهُ، وَأَوَامِرَهُ، وَنَوَاهِيَهُ، وَحِفْظُ ذَلِكَ: هُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ أَوَامِرِهِ بِالِامْتِثَالِ، وَعِنْدَ نَوَاهِيهِ بِالِاجْتِنَابِ، وَعِنْدَ حُدُودِهِ، فَلَا يَتَجَاوَزُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَأَذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنَ الْحَافِظِينَ لِحُدُودِ اللَّهِ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ - مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32 - 33]  وَفُسِّرَ الْحَفِيظُ هَاهُنَا بِالْحَافِظِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ، وَبِالْحَافِظِ لِذُنُوبِهِ لِيَتُوبَ مِنْهَا.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ الصَّلَاةُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَقَالَ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، وَمَدَحَ الْمُحَافِظِينَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34].
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» .
وَمِمَّا يُؤْمَرُ بِحِفْظِهِ الْأَيْمَانُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] ، فَإِنَّ الْأَيْمَانَ يَقَعُ النَّاسُ فِيهَا كَثِيرًا، وَيُهْمِلُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا يَجِبُ بِهَا، فَلَا يَحْفَظُهُ، وَلَا يَلْتَزِمُهُ.

وَمِنْ ذَلِكَ حِفْظُ الرَّأْسِ وَالْبَطْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْفُوعِ: " «الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى» " خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَحِفْظُ الرَّأْسِ وَمَا وَعَى يَدْخُلُ فِيهِ حِفْظُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَحِفْظُ الْبَطْنِ وَمَا حَوَى يَتَضَمَّنُ حِفْظَ الْقَلْبِ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَى مُحَرَّمٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] .
وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا حِفْظَ الْبَطْنِ مِنْ إِدْخَالِ الْحَرَامِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ نَوَاهِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: اللِّسَانُ وَالْفَرْجُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ.
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ فَقْمَيْهِ وَفَرْجِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
وَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ، وَمَدَحَ الْحَافِظِينَ لَهَا، فَقَالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] ، وَقَالَ:
{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] ، وَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] [الْمُؤْمِنُونَ: 1 - 6] .
وَقَالَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ: أَوَّلُ مَا وَصَّى اللَّهُ بِهِ آدَمَ عِنْدَ إِهْبَاطِهِ إِلَى الْأَرْضِ: حَفِظُ فَرْجِهِ، وَقَالَ لَا تَضَعْهُ إِلَّا فِي حَلَالٍ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَحْفَظْكَ " يَعْنِي: أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللَّهِ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ، حَفِظَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] ، وَقَالَ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] ، وَقَالَ: إِنَّ {تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]

وَحِفْظُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ يَدْخُلُ فِيهِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: حِفْظُهُ لَهُ فِي مَصَالِحِ دُنْيَاهُ، كَحِفْظِهِ فِي بَدَنِهِ وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّوْا عَنْهُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنَّ الْأَجَلَّ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ يَأْتِيهِ إِلَّا قَالَ: وَرَاءَكَ، إِلَّا شَيْئًا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ.
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي، وَآمِنْ رَوْعَتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» ".
وَمَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ فِي صِبَاهُ وَقُوَّتِهِ، حَفِظَهُ اللَّهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ، وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ.
كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ سَنَةً وَهُوَ مُمَتَّعٌ بِقُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ، فَوَثَبَ يَوْمًا وَثْبَةً شَدِيدَةً، فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ جَوَارِحٌ حَفِظْنَاهَا عَنِ الْمَعَاصِي فِي الصِّغَرِ، فَحَفِظَهَا اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْكِبَرِ. وَعَكْسُ هَذَا أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ رَأَى شَيْخًا يَسْأَلُ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ ضَيَّعَ اللَّهَ فِي صِغَرِهِ، فَضَيَّعَهُ اللَّهُ فِي كِبَرِهِ.
وَقَدْ يَحْفَظُ اللَّهُ الْعَبْدَ بِصَلَاحِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي ذُرِّيَّتِهِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]: أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِابْنِهِ: لَأَزِيدَنَّ فِي صَلَاتِي مِنْ أَجْلِكَ، رَجَاءَ أَنْ أُحْفَظَ فِيكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ إِلَّا حَفِظَهُ اللَّهُ فِي عَقِبِهِ وَعَقِبِ عَقِبِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ اللَّهَ لَيَحْفَظُ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَالدُّوَيْرَاتِ الَّتِي حَوْلَهُ فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظٍ مِنَ اللَّهِ وَسِتْرٍ.
وَمَتَى كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَغِلًا بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَةٌ فِي بَيْتٍ، فَخَرَجَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرَكَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عَنَزَةً وَصِيصِيَتَهَا كَانَتْ تَنْسِجُ بِهَا، قَالَ: فَفَقَدَتْ عَنْزًا لَهَا وَصِيصِيَتَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ إِنَّكَ قَدْ ضَمِنْتَ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِكَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي قَدْ فَقَدْتُ عَنْزًا مِنْ غَنَمِي وَصِيصِيَتِي، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ عَنْزِي وَصِيصِيَتِي قَالَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شِدَّةَ مُنَاشَدَتِهَا رَبَّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا، وَصَيْصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا» . وَالصِّيصِيَةُ: هِيَ الصِّنَّارَةُ الَّتِي يُغْزَلُ بِهَا وَيُنْسَجُ.
فَمَنْ حَفِظَ اللَّهَ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ أَذًى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنِ اتَّقَى اللَّهَ فَقَدْ حَفِظَ نَفْسَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَ تَقْوَاهُ، فَقَدْ ضَيَّعَ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عَنْهُ.
وَمِنْ عَجِيبِ حِفْظِ اللَّهِ لِمَنْ حَفِظَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَةَ بِالطَّبْعِ حَافِظَةً لَهُ مِنَ الْأَذَى، كَمَا جَرَى لِسَفِينَةَ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كُسِرَ بِهِ الْمَرْكِبُ، وَخَرَجَ إِلَى جَزِيرَةٍ، فَرَأَى الْأَسَدَ، فَجَعَلَ يَمْشِي مَعَهُ حَتَّى دَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمَّا أَوْقَفَهُ عَلَيْهَا، جَعَلَ يُهَمْهِمْ كَأَنَّهُ يُوَدِّعُهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.
وَرُئِيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ نَائِمًا فِي بُسْتَانٍ وَعِنْدَهُ حَيَّةٌ فِي فَمِهَا طَاقَةُ نَرْجِسٍ، فَمَا زَالَتْ تَذُبُّ عَنْهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ.
وَعَكْسُ هَذَا أَنَّ مَنْ ضَيَّعَ اللَّهَ، ضَيَّعَهُ اللَّهُ، فَضَاعَ بَيْنَ خَلْقِهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ وَالْأَذَى مِمَّنْ كَانَ يَرْجُو نَفْعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ خَادِمِي وَدَابَّتِي.
النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْحِفْظِ، وَهُوَ أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ: حِفْظُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ، فَيَحْفَظُهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُضِلَّةِ، وَمِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهِ دِينَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَيَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِيمَانِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا حَضَرَ الرَّجُلَ الْمَوْتُ يُقَالُ لِلْمَلَكِ: شَمَّ رَأْسَهُ، قَالَ: أَجِدُ فِي رَأْسِهِ الْقُرْآنَ، قَالَ: شَمَّ قَلْبَهُ، قَالَ: أَجِدُ فِي قَلْبِهِ الصِّيَامَ، قَالَ: شَمَّ قَدَمَيْهِ قَالَ: أَجِدُ فِي قَدَمَيْهِ الْقِيَامَ قَالَ: حَفِظَ نَفْسَهُ، فَحَفِظَهُ اللَّهُ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ
مَنَامِهِ: إِنْ قَبَضْتَ نَفْسِي، فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا، فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» .
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ احْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَائِمًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَاعِدًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ رَاقِدًا، وَلَا تُطِعْ فِيَّ عَدُوًّا وَلَا حَاسِدًا» خَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ ".
«وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَدِّعُ مَنْ أَرَادَ سَفَرًا، فَيَقُولُ: " أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ " وَكَانَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُوْدِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ» ". خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْفَظُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْحَافِظِ لِحُدُودِ دِينِهِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِفْظِ، وَقَدْ لَا يَشْعُرُ الْعَبْدُ بِبَعْضِهَا، وَقَدْ يَكُونُ كَارِهًا لَهُ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] ، قَالَ يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي تَجُرُّهُ إِلَى النَّارِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ - وَذَكَرَ أَهْلَ الْمَعَاصِي -: هَانُوا عَلَيْهِ، فَعَصَوْهُ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَهُمُّ بِالْأَمْرِ مِنَ التِّجَارَةِ وَالْإِمَارَةِ حَتَّى يُيَسَّرَ لَهُ، فَيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: اصْرِفُوهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِنْ يَسَّرْتُهُ لَهُ أَدْخَلْتُهُ النَّارَ، فَيَصْرِفُهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَيَظَلُّ يَتَطَيَّرُ يَقُولُ: سَبَقَنِي فَلَانٌ دَهَانِي فُلَانٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا فَضْلُ اللَّهِ عَزَّ جَلَّ.
وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَإِنْ بَسَطْتُ عَلَيْهِ أَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ، لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ، لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا السَّقَمُ، وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَطْلُبُ بَابًا مِنَ الْعِبَادَةِ، فَأَكُفُّهُ عَنْهُ، لِكَيْلَا يَدْخُلَهُ الْعُجْبُ، إِنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلْمِي بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ» وَفِي رِوَايَةٍ: " أَمَامَكَ " مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللَّهِ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ، وَجَدَ اللَّهَ مَعَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيُوَفِّقُهُ وَيُسَدِّدُهُ فِـ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] قَالَ قَتَادَةُ: مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَكُنْ مَعَهُ، وَمَنْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ، فَمَعَهُ الْفِئَةُ الَّتِي لَا تُغْلَبُ، وَالْحَارِسُ الَّذِي لَا يَنَامُ، وَالْهَادِي الَّذِي لَا يَضِلُّ.
كَتَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ كَانَ اللَّهُ مَعَكَ فَمَنْ تَخَافُ؟ وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ فَمَنْ تَرْجُو؟ وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ، وَقَوْلُ مُوسَى: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَهُمَا فِي الْغَارِ «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنٍ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» .
فَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ تَقْتَضِي النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ، وَالْحِفْظَ وَالْإِعَانَةَ بِخِلَافِ الْمَعِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا} [المجادلة: 7] ، وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي عِلْمَهُ وَاطِّلَاعَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ لِأَعْمَالِهِمْ، فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِتَخْوِيفِ الْعِبَادِ مِنْهُ. وَالْمَعِيَّةُ الْأُولَى تَقْتَضِي حِفْظَ الْعَبْدِ وَحِيَاطَتَهُ وَنَصْرَهُ، فَمَنْ حَفِظَ اللَّهَ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ، وَجَدَهُ أَمَامَهُ وَتُجَاهَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَاسْتَأْنَسَ بِهِ، وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ خَلْقِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ " «أَفْضَلُ الْإِيمَانِ
أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ» " وَقَدْ سَبَقَ.
وَرُوِيَ عَنْ بُنَانَ الْحَمَّالِ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَرِّيَّةَ وَحْدَهُ عَلَى طَرِيقِ تَبُوكَ، فَاسْتَوْحَشَ، فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ: لِمَ تَسْتَوْحِشُ؟ أَلَيْسَ حَبِيبُكَ مَعَكَ؟ وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: أَلَّا تَسْتَوْحِشُ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ: كَيْفَ أَسْتَوْحِشُ، وَهُوَ يَقُولُ: " أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي " وَقِيلَ لِآخَرَ: نَرَاكَ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ: مَنْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ، كَيْفَ يَكُونُ وَحْدَهُ؟ وَقِيلَ لِآخَرَ: أَمَا مَعَكَ مُؤْنِسٌ؟ قَالَ: بَلَى، قِيلَ لَهُ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: أَمَامِي، وَمَعِي، وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَفَوْقِي وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يُنْشِدُ:
إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ أَمَامَنَا ... كَفَى لِمَطَايَانَا بِذِكْرِكَ هَادِيَا

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» " يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا
اتَّقَى اللَّهَ، وَحَفِظَ حُدُودَهُ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ فِي حَالِ رَخَائِهِ، فَقَدْ تَعَرَّفَ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ، فَعَرَفَهُ رَبُّهُ فِي الشِّدَّةِ، وَرَعَى لَهُ تَعَرُّفَهُ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، فَنَجَّاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، وَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي قُرْبَ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَإِجَابَتَهُ لِدُعَائِهِ.
فَمَعْرِفَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعْرِفَةُ الْعَامَّةُ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ الْإِقْرَارِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ، وَهَذِهِ عَامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَالثَّانِي: مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي مَيْلَ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِ، وَالْأُنْسَ بِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِهِ، وَالْحَيَاءَ مِنْهُ، وَالْهَيْبَةَ لَهُ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي يَدُورُ حَوْلَهَا الْعَارِفُونَ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَسَاكِينُ أَهْلِ الدُّنْيَا، خَرَجُوا مِنْهَا وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا، قِيلَ لَهُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ: أُحِبُّ أَنْ لَا أَمُوتَ حَتَّى أَعْرِفَ مَوْلَايَ، وَلَيْسَ مَعْرِفَتُهُ الْإِقْرَارَ بِهِ، وَلَكِنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا عَرَفْتَهُ اسْتَحْيَيْتَ مِنْهُ.

وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ أَيْضًا لِعَبْدِهِ نَوْعَانِ: مَعْرِفَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ، وَاطِّلَاعُهُ عَلَى مَا أَسَرُّوهُ وَمَا أَعْلَنُوهُ، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] ، قَالَ: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32].
وَالثَّانِي: مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ تَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ لِعَبْدِهِ، وَتَقْرِيبَهُ إِلَيْهِ، وَإِجَابَةَ دُعَائِهِ، وَإِنْجَاءَهُ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُحْكَى عَنْ رَبِّهِ " «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي
يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي، لِأُعِيذَنَّهُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " «وَلَئِنْ دَعَانِي لِأُجِيبَنَّهُ» ".
وَلَمَّا هَرَبَ الْحَسَنُ مِنَ الْحَجَّاجِ دَخَلَ إِلَى بَيْتِ حَبِيبٍ أَبِي مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَبِّكَ مَا تَدْعُوهُ، فَيَسْتُرُكَ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ ادْخُلِ الْبَيْتَ، فَدَخَلَ، وَدَخَلَ الشُّرَطُ عَلَى أَثَرِهِ، فَلَمْ يَرَوْهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلْحَجَّاجِ، فَقَالَ: بَلْ كَانَ فِي الْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ طَمَسَ أَعْيُنَهُمْ فَلَمْ يَرَوْهُ.
وَاجْتَمَعَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ بِشَعْوَانَةَ الْعَابِدَةِ، فَسَأَلَهَا الدُّعَاءَ، فَقَالَتْ: يَا فُضَيْلُ، وَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَا إِنْ دَعَوْتَهُ أَجَابَكَ، فَغُشِيَ عَلَى الْفُضَيْلِ.
وَقِيلَ لِمَعْرُوفٍ: وَمَا الَّذِي هَيَّجَكَ إِلَى الِانْقِطَاعِ وَالْعِبَادَةِ؟ وَذَكَرَ لَهُ الْمَوْتَ وَالْبَرْزَخَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ - فَقَالَ مَعْرُوفٌ: إِنَّ مَلِكًا هَذَا كُلُّهُ بِيَدِهِ إِنْ كَانَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ كَفَاكَ جَمِيعَ هَذَا.
وَفِي الْجُمْلَةِ، فَمَنْ عَامَلَ اللَّهَ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فِي حَالِ رَخَائِهِ، عَامَلَهُ اللَّهُ بِاللُّطْفِ وَالْإِعَانَةِ فِي حَالِ شِدَّتِهِ.
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» .
وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ «أَنَّ يُونُسَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا صَوْتٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ غَرِيبَةٍ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدِي يُونُسُ، قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: يَا رَبِّ، أَفَلَا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنْجِيَهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَأَمَرَ اللَّهُ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بِالْعَرَاءِ» .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ: اذْكُرُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ، يَذْكُرْكُمْ فِي الشِّدَّةِ، إِنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، فَلَمَّا وَقَعَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] وَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ طَاغِيًا نَاسِيًا لِذِكْرِ اللَّهِ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ، قَالَ: آمَنْتُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] .
وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ دَعَّاءً فِي السَّرَّاءِ، فَنَزَلَتْ بِهِ ضَرَّاءُ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: صَوْتٌ مَعْرُوفٌ فَشَفَعُوا لَهُ، وَإِذَا كَانَ لَيْسَ بِدَعَّاءٍ فِي السَّرَّاءِ، فَنَزَلَتْ بِهِ ضَرَّاءُ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: صَوْتٌ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، فَلَا يَشْفَعُونَ لَهُ.
وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: اذْكُرِ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ يَذْكُرْكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الضَّرَّاءِ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ فِي يَوْمِ سَرَّائِكَ لَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكَ فِي يَوْمِ ضَرَّائِكَ.
وَأَعْظَمُ الشَّدَائِدِ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا الْمَوْتُ، وَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَصِيرُ الْعَبْدِ إِلَى خَيْرٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِالتَّقْوَى وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18 - 19]  .
فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَرَخَائِهِ، وَاسْتَعَدَّ حِينَئِذٍ لِلِقَاءِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، ذَكَرَهُ اللَّهُ عِنْدَ هَذِهِ الشَّدَائِدِ، فَكَانَ مَعَهُ فِيهَا، وَلَطَفَ بِهِ، وَأَعَانَهُ، وَتَوَلَّاهُ، وَثَبَّتَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَلَقِيَهُ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَمَنْ نَسِيَ اللَّهَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَرَخَائِهِ، وَلَمْ يَسْتَعِدَّ حِينَئِذٍ لِلِقَائِهِ، نَسِيَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الشَّدَائِدِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَهْمَلَهُ فَإِذَا نَزَلَ الْمَوْتُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ، أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ، وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، فَأَحَبَ لِقَاءَ اللَّهِ، وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَالْفَاجِرُ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَبْشِرُ بِمَا قَدَّمَهُ مِمَّا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ، وَيَنْدَمُ الْمُفْرِّطُ، وَيَقُولُ: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
] قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَبْلَ مَوْتِهِ: كَيْفَ لَا أَرْجُو رَبِّي وَقَدْ صُمْتُ لَهُ ثَمَانِينَ رَمَضَانَ؟ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ لِابْنِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: أَتَرَى اللَّهَ يُضَيِّعُ لِأَبِيكَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ .
وَخَتَمَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ الْقُرْآنَ وَهُوَ مُسَجَّى لِلْمَوْتِ، ثُمَّ قَالَ: بِحُبِّي لَكَ، إِلَّا رَفَقْتَ بِي فِي هَذَا الْمَصْرَعِ؟ كُنْتُ أُؤَمِّلُكَ لِهَذَا الْيَوْمِ، كُنْتُ أَرْجُوكَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَضَى.
وَلَمَّا احْتُضِرَ زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ لَمُشْتَاقٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ الزَّاهِدُ عِنْدَ مَوْتِهِ: سَيِّدِي لِهَذِهِ السَّاعَةِ خَبَّأْتُكَ، وَلِهَذَا الْيَوْمِ اقْتَنَيْتُكَ، حَقِّقْ حُسْنَ ظَنِّي بِكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قَالَ: مِنَ الْكَرْبِ عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يُنْجِيهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30] الْآيَةَ قَالَ: يُبَشَّرُ بِذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَفِي قَبْرِهِ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ، فَإِنَّهُ لَفِي الْجَنَّةِ، وَمَا ذَهَبَتْ فَرْحَةُ الْبِشَارَةِ مِنْ قَلْبِهِ.
وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ حَيْثُ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مِنْ قَبْرِهِ، وَيَتَلَقَّاهُ مَلَكَاهُ اللَّذَانِ كَانَا مَعَهُ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ لَهُ: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ، فَيُؤَمِّنُ اللَّهُ خَوْفَهُ، وَيُقِرُّ اللَّهُ عَيْنَهُ، فَمَا مِنْ عَظِيمَةٍ تَغْشَى النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هِيَ لِلْمُؤْمِنِ قُرَّةُ عَيْنٍ لِمَا هَدَاهُ اللَّهُ، وَلِمَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا.

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» هَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فَإِنَّ السُّؤَالَ هُوَ دُعَاؤُهُ وَالرَّغْبَةُ إِلَيْهِ.
وَالدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، كَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يُسْأَلَ غَيْرُهُ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ بِاللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِمَسْأَلَتِهِ، فَقَالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ» ".
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " مَنْ لَا يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ ".
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ» ".
وَفِي النَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِينَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا: مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَثَوْبَانُ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَسْقُطُ سَوْطُهُ أَوْ خِطَامُ نَاقَتِهِ، فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ.
وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي فُلَانٍ أَغَارُوا عَلَيَّ فَذَهَبُوا بِابْنِي وَإِبِلِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ آلَ مُحَمَّدٍ كَذَا وَكَذَا أَهْلُ بَيْتٍ، مَا لَهُمْ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعٍ، فَاسْأَلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لَكَ؟ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ: نِعْمَ مَا رَدَّ عَلَيْكَ، فَمَا لَبِثَ أَنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ابْنَهُ وَإِبِلَهُ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِمَسْأَلَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَرَأَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ، فَأَسْتَجِيبُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟» .
وَخَرَّجَ الْمُحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي دَعَانِي فَلَمْ أُجِبْهُ؟ وَسَأَلَنِي فَلَمْ أُعْطِهِ؟ وَاسْتَغْفَرَنِي، فَلَمْ أَغْفِرْ لَهُ وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؟» .
وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ خَلْقِهِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، لِأَنَّ السُّؤَالَ فِيهِ إِظْهَارُ الذُّلِّ مِنَ السَّائِلِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ، وَفِيهِ الِاعْتِرَافُ بِقُدْرَةِ الْمَسْئُولِ عَلَى دَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ، وَنَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَدَرْءِ الْمَضَارِّ، وَلَا يَصْلُحُ الذُّلُّ وَالِافْتِقَارُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ سِوَاهُ. كَمَا قَالَ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] ، وَقَالَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَيُرْغَبَ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، وَيُلَحَّ فِي سُؤَالِهِ وَدُعَائِهِ، وَيَغْضَبَ عَلَى مَنْ لَا يَسْأَلُهُ، وَيَسْتَدْعِي مِنْ عِبَادِهِ سُؤَالَهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعْطَاءِ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ سُؤْلَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ مُلْكِهِ شَيْءٌ، وَالْمَخْلُوقُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ: يَكْرَهُ أَنْ يَسْأَلَ، وَيُحِبُّ أَنْ لَا يُسْأَلَ، لِعَجْزِهِ وَفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِرَجُلٍ كَانَ يَأْتِي الْمُلُوكَ: وَيْحَكَ، تَأْتِي مَنْ يُغْلِقُ عَنْكَ بَابَهُ، وَيُظْهِرُ لَكَ فَقْرَهُ، وَيُوَارِي عَنْكَ غِنَاهُ، وَتَدَعُ مَنْ يَفْتَحُ لَكَ بَابَهُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَنِصْفَ النَّهَارِ، وَيُظْهِرُ لَكَ غِنَاهُ، وَيَقُولُ ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ؟ ! .
وَقَالَ طَاوُسٌ لِعَطَاءٍ: إِيَّاكَ أَنْ تَطْلُبَ حَوَائِجَكَ إِلَى مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَكَ وَيَجْعَلُ دُونَهَا حُجَّابَهُ، وَعَلَيْكَ بِمَنْ بَابُهُ مَفْتُوحٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ، وَوَعَدَكَ أَنْ يُجِيبَكَ.

وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ، فَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِجَلْبِ مَصَالِحِهِ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِ، وَلَا مُعِينَ لَهُ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ
إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ، فَهُوَ الْمُعَانُ، وَمَنْ خَذَلَهُ فَهُوَ الْمَخْذُولُ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى قَوْلِ: " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تَحَوُّلَ لِلْعَبْدِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، فَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ كُلِّهَا فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ مِنْ أَهْوَالِ الْبَرْزَخِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ حَقَّقَ الِاسْتِعَانَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَعَانَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ» .
وَمَنْ تَرَكَ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ، وَاسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ، وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ فَصَارَ مَخْذُولًا. كَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَيَكِلُكَ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ: يَا رَبِّ عَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُكَ كَيْفَ يَرْجُو غَيْرَكَ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُكَ كَيْفَ يَسْتَعِينُ بِغَيْرِكَ.

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ» "، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " «رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» " هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَقَدُّمِ كِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ كُلِّهَا، وَالْفَرَاغِ مِنْهَا مِنْ أَمَدٍ بَعِيدٍ، فَإِنَّ الْكِتَابَ إِذَا فُرِغَ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَرُفِعَتِ الْأَقْلَامُ عَنْهُ، وَطَالَ عَهْدُهُ، فَقَدْ رُفِعَتْ عَنْهُ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ الَّتِي كُتِبَ بِهَا مِنْ مِدَادِهَا، وَجَفَّتِ الصَّحِيفَةُ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا بِالْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ بِهِ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكِنَايَاتِ وَأَبْلَغِهَا.
وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَنُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]  وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» .
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» .
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهَا.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ» .
هَذِهِ رِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَرِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَالْمُرَادُ: أَنَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ فِي دُنْيَاهُ مِمَّا يَضُرُّهُ أَوْ يَنْفَعُهُ، فَكُلُّهُ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُصِيبُ الْعَبْدَ
إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ مَقَادِيرِ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ، وَلَوِ اجْتَهَدَ عَلَى ذَلِكَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ جَمِيعًا.
وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] ، وَقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] ، وَقَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154].
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» .
وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى ذَلِكَ أَيْضًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ جَمِيعِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، وَرَاجِعٌ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَلِمَ أَنْ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَأَنَّ اجْتِهَادَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ عَلَى خِلَافِ الْمَقْدُورِ غَيْرُ مُفِيدٍ الْبَتَّةَ، عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ تَوْحِيدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِفْرَادَهُ بِالطَّاعَةِ، وَحِفْظَ حُدُودِهِ، فَإِنَّ الْمَعْبُودَ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِعِبَادَتِهِ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ، وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ مَنْ يَعْبُدُ مَنْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يُغْنِي عَنْ عَابِدِهِ شَيْئًا، فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ غَيْرُ اللَّهِ، أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ إِفْرَادَهُ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْمَحَبَّةِ وَالسُّؤَالِ
وَالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ، وَتَقْدِيمِ طَاعَتِهِ عَلَى طَاعَةِ الْخَلْقِ جَمِيعًا، وَأَنْ يَتَّقِيَ سُخْطَهُ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ سُخْطُ الْخَلْقِ جَمِيعًا، وَإِفْرَادُهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالسُّؤَالِ لَهُ، وَإِخْلَاصِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي حَالِ الشِّدَّةِ وَحَالِ الرَّخَاءِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ مِنْ إِخْلَاصِ الدُّعَاءِ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَنِسْيَانِهِ فِي الرَّخَاءِ، وَدُعَاءِ مَنْ يَرْجُونَ نَفْعَهُ مِنْ دُونِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]  .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا» يَعْنِي: أَنَّ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ الْمُؤْلِمَةِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَيْهِ إِذَا صَبَرَ عَلَيْهَا، كَانَ لَهُ فِي الصَّبْرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ زِيَادَةٌ أُخْرَى قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ، وَهِيَ " «فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا فِي الْيَقِينِ، فَافْعَلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا» ".
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ، لَكِنَّ إِسْنَادَهَا ضَعِيفٌ، زِيَادَةٌ أُخْرَى بَعْدَ هَذَا، وَهِيَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْيَقِينِ؟ قَالَ: " أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، فَإِذَا أَنْتَ أَحْكَمْتَ بَابَ الْيَقِينِ» " وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ حُصُولَ الْيَقِينِ لِلْقَلْبِ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ وَالتَّقْدِيرِ الْمَاضِي يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى أَنْ تَرْضَى نَفْسُهُ بِمَا أَصَابَهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْيَقِينِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَلَى الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الرِّضَا، فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ خَيْرًا كَثِيرًا.
فَهَاتَانِ دَرَجَتَانِ لِلْمُؤْمِنِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ، وَهِيَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ رَفِيعَةٌ جِدًّا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قَالَ عَلْقَمَةُ: هِيَ الْمُصِيبَةُ تُصِيبُ الرَّجُلَ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُسَلِّمُ لَهَا وَيَرْضَى.
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ، فَلَهُ الرِّضَا، وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» ، «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» .
وَمِمَّا يَدْعُو الْمُؤْمِنَ إِلَى الرِّضَا بِالْقَضَاءِ تَحْقِيقُ إِيمَانِهِ بِمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» .
«وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُوصِيَهُ وَصِيَّةً جَامِعَةً مُوجَزَةً، فَقَالَ: " لَا تَتَّهِمِ اللَّهَ فِي قَضَائِهِ» ".
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبَّ أَنْ يُرْضَى بِهِ، وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: إِنَّ اللَّهَ بِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ جَعَلَ الرُّوحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ؛ فَالرَّاضِي لَا يَتَمَنَّى غَيْرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَصْبَحْتُ وَمَالِي سُرُورٌ إِلَّا فِي مَوَاضِعِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.
فَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، كَانَ عَيْشُهُ كُلُّهُ فِي نَعِيمٍ وَسُرُورٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ: هِيَ الرِّضَا وَالْقَنَاعَةُ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: الرِّضَا بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ وَجَنَّةُ الدُّنْيَا وَمُسْتَرَاحُ الْعَابِدِينَ.
وَأَهْلُ الرِّضَا تَارَةً يُلَاحِظُونَ حِكْمَةَ الْمُبْتَلِي وَخَيْرَتَهُ لِعَبْدِهِ فِي الْبَلَاءِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي قَضَائِهِ، وَتَارَةً يُلَاحِظُونَ ثَوَابَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَيُنْسِيهِمْ أَلَمَ الْمَقْضِيِّ بِهِ، وَتَارَةً يُلَاحِظُونَ عَظَمَةَ الْمُبْتَلِي وَجَلَالَهُ وَكَمَالَهُ، فَيَسْتَغْرِقُونَ فِي مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَشْعُرُونَ بِالْأَلَمِ، وَهَذَا يَصِلُ إِلَيْهِ خَوَاصُّ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، حَتَّى رُبَّمَا تَلَذَّذُوا بِمَا أَصَابَهُمْ لِمُلَاحَظَتِهِمْ صُدُورَهُ عَنْ حَبِيبِهِمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوَجَدَهُمْ فِي عَذَابِهِ عُذُوبَةً. وَسُئِلَ بَعْضُ التَّابِعِينَ عَنْ حَالِهِ فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: أَحَبُّهُ إِلَيْهِ أَحَبُّهُ إِلَيَّ. وَسُئِلَ السَّرِيُّ: هَلْ يَجِدُ الْمُحِبُّ أَلَمَ الْبَلَاءِ؟ فَقَالَ: لَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
عَذَابُهُ فِيكَ عَذْبٌ ... وَبُعْدُهُ فِيكَ قُرْبُ
وَأَنْتَ عِنْدِي كَرُوحِي ... بَلْ أَنْتَ مِنْهَا أَحَبُّ
حَسْبِي مِنَ الْحُبِّ أَنِّي
لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ
وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَالرِّضَا فَضْلٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، مُسْتَحَبٌّ، وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتْمٌ، وَفِي الصَّبْرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ جَزِيلَ الْأَجْرِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ، وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 155 - 157] قَالَ الْحَسَنُ: الرِّضَا عَزِيزٌ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مُعَوَّلُ الْمُؤْمِنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّضَا وَالصَّبْرِ: أَنَّ الصَّبْرَ كَفُّ النَّفْسِ وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ مَعَ وُجُودِ الْأَلَمِ، وَتَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ، وَكَفُّ الْجَوَارِحِ عَنِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْجَزَعِ، وَالرِّضَا: انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَسَعَتُهُ بِالْقَضَاءِ، وَتَرْكُ تَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ الْمُؤْلِمِ، وَإِنْ وُجِدَ الْإِحْسَاسُ بِالْأَلَمِ، لَكِنَّ الرِّضَا يُخَفِّفُهُ لِمَا يُبَاشِرُ الْقَلْبَ مِنْ رُوحِ الْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَإِذَا قَوِيَ الرِّضَا، فَقَدْ يُزِيلُ الْإِحْسَاسَ بِالْأَلَمِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ» ". هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] وَقَالَ عُمَرُ لِأَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ: بِمَ قَاتَلْتُمُ النَّاسَ؟ قَالُوا: بِالصَّبْرِ، لَمْ نَلْقَ قَوْمًا إِلَّا صَبَرْنَا لَهُمْ كَمَا صَبَرُوا لَنَا. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّنَا يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَلَمَ الْجِرَاحِ، وَلَكِنْ نَتَفَاضَلُ بِالصَّبْرِ. وَقَالَ الْبَطَّالُ: الشَّجَاعَةُ صَبْرُ سَاعَةٍ. وَهَذَا فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ، وَهُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ، هُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالْهَوَى، فَإِنَّ جِهَادَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْجِهَادِ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَجَاهِدْهَا، وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَاغْزُهَا.
وَقَالَ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، حَدَّثَنَا الثِّقَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا تُنْكِرُونَ مِنْ جِهَادِكُمْ أَنْفُسَكُمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ لِقَوْمٍ جَاءُوا مِنَ الْغَزْوِ: قَدْ جِئْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ، فَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ؟ قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: جِهَادُ الْقَلْبِ. وَيُرْوَى هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَلَفْظُهُ: «قَدِمْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ " قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: " مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ لِهَوَاهُ»
وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «لَيْسَ عَدَوُّكَ الَّذِي إِذَا قَتَلَكَ أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ، وَإِذَا قَتَلْتَهُ كَانَ لَكَ نُورًا، أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ» ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ اسْتَخْلَفَهُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا أُحَذِّرُكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ.
فَهَذَا الْجِهَادُ يَحْتَاجُ أَيْضًا إِلَى صَبْرٍ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ وَشَيْطَانِهِ، غَلَبَهُ وَحَصَلَ لَهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ، وَمَلَكَ نَفْسَهُ، فَصَارَ عَزِيزًا مَلِكًا، وَمَنْ جَزَعَ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى مُجَاهَدَةِ ذَلِكَ، غُلِبَ وَقُهِرَ وَأُسِرَ، وَصَارَ عَبْدًا ذَلِيلًا أَسِيرًا فِي يَدَيْ شَيْطَانِهِ وَهَوَاهُ، كَمَا قِيلَ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَغْلِبْ هَوَاهُ أَقَامَهُ ... بِمَنْزِلَةٍ فِيهَا الْعَزِيزُ ذَلِيلُ
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ صَبَرَ، فَمَا أَقَلَّ مَا يَصْبِرُ، وَمَنْ جَزَعَ فَمَا أَقَلَّ مَا يَتَمَتَّعُ.
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ» " يَشْمَلُ النَّصْرَ فِي الْجِهَادَيْنِ: جِهَادِ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ، وَجِهَادِ الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ، فَمَنْ صَبَرَ فِيهِمَا، نُصِرَ وَظَفِرَ بِعَدُوِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ فِيهِمَا وَجَزِعَ، قُهِرَ وَصَارَ أَسِيرًا لِعَدُوِّهِ أَوْ قَتِيلًا لَهُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ» " وَهَذَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَخَرَّجَهُ ابْنُهُ عَبْدُ
اللَّهِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَفِيهِ: " «عَلِمَ اللَّهُ يَوْمَ الْغَيْثِ أَنَّهُ لَيُشْرِفُ عَلَيْكُمْ أَزِلِينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ غِيَرَكُمْ إِلَى قُرْبٍ» " وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْجَبُ مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ عِنْدَ احْتِبَاسِ الْقَطْرِ عَنْهُمْ وَقُنُوطِهِمْ وَيَأْسِهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقَدِ اقْتَرَبَ وَقْتُ فَرَجِهِ وَرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ، بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ عَلَيْهِمْ، وَتَغْيِيرِهِ لِحَالِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ - وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 48 - 49] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110] وَقَالَ: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] ، ثُمَّ قَصَّ قِصَّةَ اجْتِمَاعِهِمْ عَقِبَ ذَلِكَ.
وَكَمْ قَصَّ سُبْحَانَهُ مِنْ قِصَصِ تَفْرِيجِ كُرُبَاتِ أَنْبِيَائِهِ عِنْدَ تَنَاهِي الْكَرْبِ كَإِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَإِنْجَاءِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ النَّارِ، وَفِدَائِهِ لِوَلَدِهِ الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ، وَإِنْجَاءِ مُوسَى وَقَوْمِهِ مِنَ الْيَمِّ، وَإِغْرَاقِ عَدُوِّهِمْ، وَقِصَّةِ أَيُّوبَ وَيُونُسَ، وَقِصَصِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَعْدَائِهِ، وَإِنْجَائِهِ مِنْهُمْ، كَقِصَّتِهِ فِي الْغَارِ، وَيَوْمِ بَدْرٍ، وَيَوْمِ أُحُدٍ، وَيَوْمِ الْأَحْزَابِ، وَيَوْمِ حُنَيْنٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» " هُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]
، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}  [الشَّرْحِ: 5 - 6] .
وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «لَوْ جَاءَ الْعُسْرُ، فَدَخَلَ هَذَا الْجُحْرَ، لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] » .
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا نَحْوَهُ، وَفِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» ".
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ الْعُسْرَ دَخَلَ فِي جُحْرٍ لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حُصِرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ
يَقُولُ: مَهْمَا يَنْزِلْ بِامْرِئٍ شِدَّةٌ يَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَهَا فَرَجًا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَإِنَّهُ يَقُولُ: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
وَمِنْ لَطَائِفِ أَسْرَارِ اقْتِرَانِ الْفَرَجِ بِالْكَرْبِ وَالْيُسْرِ بِالْعُسْرِ: أَنَّ الْكَرْبَ إِذَا اشْتَدَّ وَعَظُمَ وَتَنَاهَى، وَحَصَلَ لِلْعَبْدِ الْإِيَاسُ مِنْ كَشْفِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُطْلَبُ بِهَا الْحَوَائِجُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] .
وَرَوَى آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: «جَاءَ مَالِكٌ الْأَشْجَعِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أُسِرَ ابْنِي عَوْفٌ، فَقَالَ لَهُ: أَرْسِلْ إِلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ، فَأَكَبَّ عَوْفٌ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَكَانُوا قَدْ شَدُّوهُ بِالْقِدِّ فَسَقَطَ الْقِدُّ عَنْهُ، فَخَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِنَاقَةٍ لَهُمْ فَرَكِبَهَا، فَأَقْبَلَ فَإِذَا هُوَ بِسَرْحِ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ شَدُّوهُ، فَصَاحَ بِهِمْ، فَاتَّبَعَ آخِرُهَا أَوَّلَهَا، فَلَمْ يَفْجَأْ أَبَوَيْهِ إِلَّا وَهُوَ يُنَادِي
بِالْبَابِ، فَقَالَ أَبُوهُ: عَوْفٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: وَاسَوْأَتَاهُ، وَعَوْفٌ كَئِيبٌ يَأْلَمُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْقِدِّ، فَاسْتَبَقَ الْأَبُ وَالْخَادِمُ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَوْفٌ قَدْ مَلَأَ الْفِنَاءَ إِبِلًا، فَقَصَّ عَلَى أَبِيهِ أَمْرَهُ وَأَمَرَ الْإِبِلَ، فَأَتَى أَبُوهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِ عَوْفٍ وَخَبَرِ الْإِبِلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعْ بِهَا مَا أَحْبَبْتَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا بِإِبِلِكَ، وَنَزَلَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلَاقِ: 2 - 3] الْآيَةِ» .
قَالَ الْفُضَيْلُ: لَوْ يَئِسْتَ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى لَا تُرِيدَ مِنْهُمْ شَيْئًا، لَأَعْطَاكَ مَوْلَاكَ كُلَّ مَا تُرِيدُ. وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: مَا سَأَلَ السَّائِلُونَ مَسْأَلَةً هِيَ أَلْحَفُ مِنْ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ التَّفْوِيضَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ: بَلَغَنِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ، فَطَلَبَهَا، فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا حَاجَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَجِبَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَكَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْجَحُ مَا طُلِبَتْ بِهِ الْحَوَائِجُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا اسْتَبْطَأَ الْفَرَجَ، وَأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَثَرُ الْإِجَابَةِ فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّائِمَةِ، وَقَالَ لَهَا: إِنَّمَا أُتِيتُ مِنْ قِبَلِكِ، وَلَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ لَأُجِبْتُ، وَهَذَا اللَّوْمُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ انْكِسَارَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَاعْتِرَافَهُ لَهُ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ مِنَ الْبَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ تُسْرِعُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَفْرِيجُ الْكُرَبِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِهِ.
قَالَ وَهْبٌ: تَعَبَّدَ رَجُلٌ زَمَانًا، ثُمَّ بَدَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ، فَصَامَ سَبْعِينَ سَبْتًا، يَأْكُلُ فِي كُلِّ سَبْتٍ إِحْدَى عَشْرَةَ تَمْرَةً، ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ حَاجَتَهُ فَلَمْ يُعْطِهَا، فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: مِنْكِ أُتِيتُ، لَوْ كَانَ فِيكِ خَيْرٌ، أُعْطِيتِ حَاجَتَكِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ مَلَكٌ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ سَاعَتُكَ هَذِهِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَتِكَ الَّتِي مَضَتْ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَاجَتَكَ. خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.
وَلِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي هَذَا الْمَعْنَى:
عَسَى مَا تَرَى أَنْ لَا يَدُومَ وَإِنْ تَرَى ... لَهُ فَرَجًا مِمَّا أَلَحَّ بِهِ الدَّهْرُ
عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِنَّهُ ... لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ أَمْرُ
إِذَا لَاحَ عُسْرٌ فَارْجُ الْيُسْرَ فَإِنَّهُ ... قَضَى اللَّهُ أَنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ

Tidak ada komentar:

Posting Komentar

MUHASABATUN NAFS.

KOREKSI DIRI DAN ISTIQAMAH SETELAH RAMADHAN. Apakah kita yakin bahwa amal kita pasti diterima..?, kita hanya bisa berharap semoga Allah mene...