Senin, 10 April 2017

JAMIUL ULUM WAL HIKAM HADIS KE 9




[الْحَدِيثُ التَّاسِعُ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ]
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَرَّجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُؤَالُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَكَرَ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ
بِشَيْءٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَدَعُوهُ» . وَخَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا، وَقَالَ فِيهِ: فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] (الْمَائِدَةِ: 101) . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَجِّ، وَقَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: " فُلَانٌ " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] » . وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَغَضِبَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالَ دُعِيَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: " أَبُوكَ حُذَافَةُ " ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ» . وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] . وَخَرَّجَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَضْبَانُ مُحْمَارًّا وَجْهُهُ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيْنَ أَنَا؟ فَقَالَ " فِي النَّارِ " فَقَامَ إِلَيْهِ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: " أَبُوكَ حُذَافَةُ " فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، إِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ آبَاؤُنَا، قَالَ: فَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] » . وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَأَغْضَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَنْ لَكَفَرْتُمْ، فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ، فَافْعَلُوا، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَانْتَهُوا عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] » ، نَهَاهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا مِثْلَ الَّذِي سَأَلَتِ النَّصَارَى فِي الْمَائِدَةِ، فَأَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهَا بِتَغْلِيظٍ سَاءَكُمْ، وَلَكِنِ انْتَظِرُوا، فَإِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّكُمْ لَا تَسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْتُمْ تِبْيَانَهُ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَا يَسُوءُ السَّائِلَ جَوَابُهُ مِثْلَ سُؤَالِ السَّائِلِ؛ هَلْ هُوَ فِي النَّارِ أَوْ فِي الْجَنَّةِ، وَهَلْ أَبُوهُ مَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُ، وَعَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعَبَثِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرُهُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ سُؤَالُ الْآيَاتِ وَاقْتِرَاحُهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ، كَمَا كَانَ يَسْأَلُهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ السُّؤَالُ عَمَّا أَخْفَاهُ اللَّهُ عَنْ عِبَادِهِ، وَلَمْ يُطْلِعْهُمْ عَلَيْهِ، كَالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَعَنِ الرُّوحِ. وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِمَّا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ سَبَبًا لِنُزُولِ التَّشْدِيدِ فِيهِ، كَالسُّؤَالِ عَنِ الْحَجِّ: هَلْ يَجِبُ كُلَّ عَامٍ أَمْ لَا؟ وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . «وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللِّعَانِ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى ابْتُلِيَ السَّائِلُ عَنْهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِذَلِكَ فِي أَهْلِهِ» ، «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» .

وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِي الْمَسَائِلِ إِلَّا لِلْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْوُفُودِ الْقَادِمِينَ عَلَيْهِ، يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ الْمُقِيمُونَ بِالْمَدِينَةِ
الَّذِينَ رَسَخَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَنَهَوْا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ: أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةً مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ، كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِ أَيْضًا «عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " «عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: كَانَ اللَّهُ قَدْ أَنْزَلَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] قَالَ: فَكُنَّا قَدْ كَرِهْنَا كَثِيرًا مِنْ مَسْأَلَتِهِ وَاتَّقَيْنَا ذَلِكَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَتَيْنَا أَعْرَابِيًّا، فَرَشَوْنَاهُ بَرْدًا، ثُمَّ قُلْنَا لَهُ: سَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ حَدِيثًا» . وَفِي " مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى " عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: إِنْ كَانَ لَتَأْتِي عَلَيَّ السَّنَةُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَأَتَهَيَّبُ مِنْهُ، وَإِنْ كُنَّا لَنَتَمَنَّى الْأَعْرَابَ. وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ "، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] (الْبَقَرَةِ: 219) ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] (الْبَقَرَةِ: 22) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى (الْبَقَرَةِ: 22) ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا يَسْأَلُونَهُ عَنْ حُكْمِ حَوَادِثَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، لَكِنْ لِلْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ وُقُوعِهَا، كَمَا قَالُوا لَهُ: إِنَّا لَاقُوا الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ وَسَأَلُوهُ عَنِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بَعْدَهُ، وَعَنْ طَاعَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَسَأَلَهُ حُذَيْفَةُ عَنِ الْفِتَنِ، وَمَا يَصْنَعُ فِيهَا. فَبِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَسَائِلِ وَذَمِّهَا، وَلَكِنْ بَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُخْتَصًّا بِزَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَخْشَى حِينَئِذٍ مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يَحْرُمْ، أَوْ إِيجَابِ مَا يَشُقُّ الْقِيَامُ بِهِ، وَهَذَا قَدْ أَمِنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ سَبَبُ كَرَاهَةِ الْمَسَائِلِ، بَلْ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي كَلَامِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا بِقَوْلِهِ: وَلَكِنِ انْتَظِرُوا، فَإِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّكُمْ لَا تَسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْتُمْ تِبْيَانَهُ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ لَابُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَيُبَلِّغُ ذَلِكَ رَسُولُهُ عَنْهُ، فَلَا حَاجَةَ بَعْدَ هَذَا لِأَحَدٍ فِي السُّؤَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ مِنْهُمْ، فَمَا كَانَ فِيهِ هِدَايَتُهُمْ وَنَفْعُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَابُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، كَمَا قَالَ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] (النِّسَاءِ: 176) . وَحِينَئِذٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا سِيَّمَا قَبْلَ وُقُوعِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ الْمُهِمَّةُ إِلَى فَهْمِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ اتِّبَاعُ ذَلِكَ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ عَنِ الْمَسَائِلِ؛ فَيُحِيلُ عَلَى الْقُرْآنِ، كَمَا «سَأَلَهُ عُمَرُ عَنِ الْكَلَالَةِ، " فَقَالَ يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» . وَأَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ شُغْلًا عَنِ الْمَسَائِلِ، «فَقَالَ: إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، فَالَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسْلِمِ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالِاهْتِمَامُ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي فَهْمِ ذَلِكَ، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهِ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِالتَّصْدِيقِ بِذَلِكَ إِنْ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ، بَذَلَ وُسْعَهُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي فِعْلِ مَا يَسْتَطِيعُهُ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ مَا يُنْهَى عَنْهُ، وَتَكُونُ هِمَّتُهُ مَصْرُوفَةً بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى ذَلِكَ؛ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَهَكَذَا كَانَ حَالُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ هِمَّةُ السَّامِعِ مَصْرُوفَةً عِنْدَ سَمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى فَرْضِ أُمُورٍ قَدْ تَقَعُ، وَقَدْ لَا تَقَعُ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَيُثَبِّطُ عَنِ الْجِدِّ فِي مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ. وَقَدْ «سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ» ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتَ عَلَيْهِ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ زُوحِمْتَ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اجْعَلْ " أَرَأَيْتَ " بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ أَنْ لَا يَكُونَ لَكَ هَمٌّ إِلَّا فِي الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَّا فَرْضَ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ أَوْ تَعَسُّرَهَ قَبْلَ وُقُوعِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْتُرُ الْعَزْمُ عَلَى التَّصْمِيمِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ، فَإِنَّ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ، وَالسُّؤَالَ عَنِ الْعِلْمِ إِنَّمَا يُحْمَدُ إِذَا كَانَ لِلْعَمَلِ، لَا لِلْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِتَنًا تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَتَى ذَلِكَ يَا عَلِيُّ؟ قَالَ: إِذَا تُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَتُعُلِّمَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ الْآخِرَةِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ بِكُمْ إِذَا لَبِسْتُمْ فِتْنَةً يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَتُتَّخَذُ سُنَّةً، فَإِنْ غُيِّرَتْ يَوْمًا قِيلَ: هَذَا مُنْكَرٌ؟ قَالُوا: وَمَتَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِذَا قَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَتُفِقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ. خَرَّجَهُمَا عَبْدُ الرَّازَّقِ فِي كِتَابِهِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَكْرَهُونَ السُّؤَالَ عَنِ الْحَوَادِثِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَلَا يُجِيبُونَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: خَرَجَ عُمَرُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُونَا عَنْ مَا لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ لَنَا فِيمَا كَانَ شُغُلًا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ لَعَنَ السَّائِلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِذَا سُئِلَ، عَنِ الشَّيْءِ يَقُولُ: كَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قَالَ: دَعُوهُ حَتَّى يَكُونَ.
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: أَكَانَ بَعْدُ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ أَجِمَّنَا - يَعْنِي: أَرِحْنَا حَتَّى يَكُونَ -، فَإِذَا كَانَ اجْتَهَدْنَا لَكَ رَأْيَنَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سُئِلَ عَمَّارُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَدَعُونَا حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ تَجَشَّمْنَاهُ لَكُمْ. وَعَنِ الصَّلْتِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ سَأَلْتُ طَاوُسًا عَنْ شَيْءٍ، فَانْتَهَرَنِي فَقَالَ: أَكَانَ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: آللَّهِ؟ قُلْتُ: آللَّهِ. قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَنَا أَخْبَرُونَا، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ، فَيَذْهَبُ بِكُمْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُعَجِّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ، لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ، أَوْ قَالَ وُفِّقَ. وَقَدْ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْمَرَاسِيلِ " مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَنْ إِذَا قَالَ سُدِّدَ أَوْ وُفِّقَ، وَأَنَّكُمْ إِنْ عَجَّلْتُمْ، تَشَتَّتَ بِكُمُ السُّبُلُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» " وَمَعْنَى إِرْسَالِهِ أَنَّ طَاوُسًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ. وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ مُرْسَلًا.
وَرَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ بْنَ سَعِيدٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَنَا يُحَدِّثُونَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَزَالُ فِي أُمَّتِي مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ وَأُرْشِدَ حَتَّى يَتَسَاءَلُوا، عَنْ مَا لَمْ يَنْزِلْ تَبْيِينُهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، ذَهَبَ بِهِمْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» ". وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّنَابِحِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ» . خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَسَّرَهَا الْأَوْزَاعِيُّ، وَقَالَ: هِيَ شِدَادُ الْمَسَائِلِ. وَقَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ: هِيَ مَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ كَيْفَ وَكَيْفَ. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَكُونُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يُغَلِّطُونَ فُقَهَاءَهُمْ بِعَضَلِ الْمَسَائِلِ، أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي» . وَقَالَ الْحَسَنُ: شِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ شِرَارَ الْمَسَائِلِ يُعْمُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ عَبْدَهُ بَرَكَةَ الْعِلْمِ، أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ الْمَغَالِيطَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ أَقَلَّ النَّاسِ عِلْمًا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: أَدْرَكْتُ هَذِهِ الْبَلْدَةَ، وَإِنَّهُمْ لَيَكْرَهُونَ الْإِكْثَارَ الَّذِي فِيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ. يُرِيدُ الْمَسَائِلَ. وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُ مَالِكًا وَهُوَ يَعِيبُ كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَكَثْرَةَ الْفُتْيَا، ثُمَّ قَالَ: يَتَكَلَّمُ كَأَنَّهُ جَمَلٌ مُغْتَلِمٌ يَقُولُ: هُوَ كَذَا، هُوَ كَذَا يَهْدِرُ فِي كَلَامِهِ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَكْرَهُ الْجَوَابَ فِي كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ، وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] (الْإِسْرَاءِ: 85) فَلَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابٌ. وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْمُجَادَلَةَ عَنِ السُّنَنِ أَيْضًا قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَكُونُ عَالِمًا بِالسُّنَنِ يُجَادِلُ عَنْهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يُخْبِرُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ قُبِلَ مِنْهُ وَإِلَّا سَكَتَ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى: كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ فِي الْعِلْمِ يَذْهَبُ بِنُورِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِ الرَّجُلِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْمِرَاءُ فِي الْعِلْمِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُؤَثِّرُ الضَّغْنَ. وَكَانَ أَبُو شُرَيْحٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ يَوْمًا فِي مَجْلِسِهِ، فَكَثُرَتِ الْمَسَائِلُ، فَقَالَ: قَدْ دَرِنَتْ قُلُوبُكُمْ مُنْذُ الْيَوْمِ، فَقُومُوا إِلَى أَبِي حُمَيْدٍ خَالِدِ بْنِ حُمَيْدٍ اصْقُلُوا قُلُوبَكُمْ، وَتَعَلَّمُوا هَذِهِ الرَّغَائِبَ، فَإِنَّهَا تُجَدِّدُ الْعِبَادَةَ، وَتُورِثُ الزَّهَادَةَ، وَتَجُرُّ الصَّدَاقَةَ، وَأَقِلُّوا الْمَسَائِلَ إِلَّا مَا نَزَلَ، فَإِنَّهَا تُقَسِّي الْقُلُوبَ، وَتُورِثُ الْعَدَاوَةَ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ - يَسْأَلُ، عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ؟ بُلِيتُمْ بِهَا بَعْدُ؟ وَقَدِ انْقَسَمَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ أَقْسَامًا: فَمِنْ أَتْبَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَنْ سَدَّ بَابَ الْمَسَائِلِ حَتَّى قَلَّ فِقْهُهُ وَعِلْمُهُ بِحُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَصَارَ حَامِلَ فِقْهٍ غَيْرَ فَقِيهٍ. وَمِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الرَّأْيِ مَنْ تَوَسَّعَ فِي تَوْلِيدِ الْمَسَائِلِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، مَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ مِنْهَا وَمَا لَا يَقَعُ، وَاشْتَغَلُوا بِتَكَلُّفِ الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ، وَكَثْرَةِ الْخُصُومَاتِ فِيهِ، وَالْجِدَالِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ افْتِرَاقُ الْقُلُوبِ، وَيَسْتَقِرَّ فِيهَا بِسَبَبِهِ الْأَهْوَاءُ وَالشَّحْنَاءُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، وَيَقْتَرِنُ ذَلِكَ كَثِيرًا بِنِيَّةِ الْمُغَالَبَةِ، وَطَلَبِ
الْعُلُوِّ وَالْمُبَاهَاةِ، وَصَرْفِ وُجُوهِ النَّاسِ وَهَذَا مِمَّا ذَمَّهُ الْعُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى قُبْحِهِ وَتَحْرِيمِهِ. وَأَمَّا فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْعَامِلُونَ بِهِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ هَمِّهِمُ الْبَحْثُ عَنْ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنَ السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ، وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَعَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْرِفَةِ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا، ثُمَّ التَّفَقُّهِ فِيهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهَا، ثُمَّ مَعْرِفَةِ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَمَسَائِلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأُصُولِ السُّنَّةِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَفِي مَعْرِفَةِ هَذَا شُغْلٌ شَاغِلٌ عَنِ التَّشَاغُلِ بِمَا أَحْدَثَ مِنَ الرَّأْيِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا يَقَعُ، وَإِنَّمَا يُورِثُ التَّجَادُلُ فِيهِ كَثْرَةَ الْخُصُومَاتِ وَالْجِدَالِ وَكَثْرَةَ الْقِيلِ وَالْقَالِ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كَثِيرًا إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَوَلِّدَاتِ الَّتِي لَا تَقَعُ يَقُولُ: دَعُونَا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ يُونُسُ بْنُ سُلَيْمَانَ السَّقَطِيُّ: نَظَرْتُ فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا هُوَ الْحَدِيثُ وَالرَّأْيُ، فَوَجَدْتُ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَرُبُوبِيَّتَهُ وَإِجْلَالَهُ وَعَظَمَتَهُ، وَذِكْرَ الْعَرْشِ وَصِفَةَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَذِكْرَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْحَلَّالَ وَالْحَرَامَ، وَالْحَثَّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَجِمَاعُ الْخَيْرِ فِيهِ، وَنَظَرْتُ فِي الرَّأْيِ، فَإِذَا فِيهِ الْمَكْرُ، وَالْغَدْرُ، وَالْحِيَلُ، وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ، وَجِمَاعُ الشَّرِّ فِيهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبَوَيْهِ: مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْقَبْرِ فَعَلَيْهِ بِالْآثَارِ، وَمَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْخُبْزِ فَعَلَيْهِ بِالرَّأْيِ. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، تَمَكَّنَ مِنْ فَهْمِ جَوَابِ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَةِ غَالِبًا، لِأَنَّ أُصُولَهَا تُوجَدُ فِي تِلْكَ الْأُصُولِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ خَلْفَ أَئِمَّةِ أَهْلِهِ الْمُجْمَعِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ، فَإِنَّ مَنِ ادَّعَى سُلُوكَ هَذَا الطَّرِيقِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقِهِمْ، وَقَعَ فِي مَفَاوِزَ وَمَهَالِكَ، وَأَخَذَ بِمَا لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ، وَتَرَكَ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. وَمِلَاكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ مَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَسُلُوكِ طَرِيقِهِ، وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ، وَدُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ، وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَمْدُوحِينَ فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] (فَاطِرٍ: 28) ، وَمِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، فَقَالَ: مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَمَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ» . وَقَالَ نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ: يُقَالُ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: الْمُتَوَاضِعُونَ لِلَّهِ، وَالْمُتَذَلِّلُونَ لِلَّهِ فِي مَرْضَاتِهِ لَا يَتَعَاطَوْنَ مَنْ فَوْقَهُمْ، وَلَا يُحَقِّرُونَ مَنْ دُونَهُمْ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ، أَبَرُّ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ» . وَهَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِهِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْيَمَنِ، ثُمَّ إِلَى مِثْلِ أَبِي مُسْلِمٍ
الْخَوْلَانِيِّ وَأُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ الْخَائِفِينَ لِلَّهِ، فَكُلُّهُمْ عُلَمَاءُ بِاللَّهِ يَخْشَوْنَهُ وَيَخَافُونَهُ، وَبَعْضُهُمْ أَوْسَعُ عِلْمًا بِأَحْكَامِ اللَّهِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ تَمَيُّزُهُمْ عَنِ النَّاسِ بِكَثْرَةِ قِيلَ وَقَالَ، وَلَا بِحْثٍ وَلَا جِدَالٍ. وَكَذَلِكَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهُ بِتَوْسِعَةِ الْمَسَائِلِ وَتَكْثِيرِهَا، بَلْ قَدْ سَبَقَ عَنْهُ كَرَاهَةُ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَقَعُ، وَإِنَّمَا كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ وَعَالِمًا بِأُصُولِ دِينِهِ وَقَدْ قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: مَنْ نَسْأَلُ بَعْدَكَ؟ قَالَ عَبْدَ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقَ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ اتِّسَاعٌ فِي الْعِلْمِ، قَالَ: إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ مِثْلُهُ يُوَفَّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ. وَسُئِلَ عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، فَقَالَ: كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْعِلْمِ: خَشْيَةُ اللَّهِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ: كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا، وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاللَّهِ جَهْلًا. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَقُولُ: مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تُوجَدُ مِثْلُهَا فِي كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، بَلِ اشْتَغَلَ بِفَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي، فَهُوَ مِمَّنِ امْتَثَلَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنِ اهْتِمَامُهُ بِفَهْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَاشْتَغَلَ بِكَثْرَةِ تَوْلِيدِ الْمَسَائِلِ قَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ، وَتَكَلَّفَ أَجْوِبَتَهَا بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ، خُشِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، مُرْتَكِبًا لِنَهْيِهِ، تَارِكًا لِأَمْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَوْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا سَأَلَ عَمَّا شَرَعَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فَامْتَثَلَهُ، وَعَمَّا نَهَى عَنْهُ فِيهِ فَاجْتَنَبَهُ، وَقَعَتِ الْحَوَادِثُ مُقَيَّدَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ بِمُقْتَضَى رَأْيِهِ وَهَوَاهُ، فَتَقَعُ الْحَوَادِثُ عَامَّتُهَا مُخَالِفَةً لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرُبَّمَا عَسُرَ رَدُّهَا إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِبُعْدِهَا عَنْهَا. وَفِي الْجُمْلَةِ فَمَنِ امْتَثَلَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَكَانَ مُشْتَغِلًا بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ، حَصَلَ لَهُ النَّجَاةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، وَاشْتَغَلَ بِخَوَاطِرِهِ وَمَا يَسْتَحْسِنُهُ، وَقَعَ فِيمَا حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ هَلَكُوا بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَعَدَمِ انْقِيَادِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ لِرُسُلِهِمْ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» " قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ النَّهْيَ أَشَدُّ مِنَ الْأَمْرِ، لِأَنَّ النَّهْيَ لَمْ يُرَخَّصْ فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ قُيِّدَ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَعْمَالُ الْبِرِّ يَعْمَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَأَمَّا الْمَعَاصِي، فَلَا يَتْرُكُهَا إِلَّا صِدِّيقٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْبِقَ الدَّائِبَ الْمُجْتَهِدَ فَلْيَكُفَّ عَنِ الذُّنُوبِ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا عَبَدَ الْعَابِدُونَ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ تَرْكِ مَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ تَفْضِيلِ تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ عَلَى نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ، وَإِلَّا فَجِنْسُ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا، وَالْمَحَارِمَ الْمَطْلُوبُ عَدَمُهَا، وَلِذَلِكَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ كَانَ جِنْسُ تَرْكِ الْأَعْمَالِ قَدْ تَكُونُ كُفْرًا كَتَرْكِ التَّوْحِيدِ، وَكَتَرْكِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْضِهَا عَلَى مَا سَبَقَ، بِخِلَافِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيَّاتِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ بِنَفْسِهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: لَرَدُّ دَانِقٍ مِنْ حَرَامٍ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ تُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: تَرْكُ دَانَقٍ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ حَجَّةٍ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: ذِكْرُ اللَّهِ بِاللِّسَانِ حَسَنٌ وَأَفْضَلُ مِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ الْعَبْدُ
عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ فَيُمْسِكَ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفٍ، حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَيْسَتِ التَّقْوَى قِيَامَ اللَّيْلِ، وَصِيَامَ النَّهَارِ، وَالتَّخْلِيطَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ التَّقْوَى أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ، وَتَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عَمَلٌ، فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ أَيْضًا: وَدِدْتُ أَنِّي لَا أُصَلِّي غَيْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ سِوَى الْوَتْرِ، وَأَنْ أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَلَا أَتَصَدَّقَ بَعْدَهَا بِدِرْهَمٍ، وَأَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ وَلَا أَصُومَ بَعْدَهُ يَوْمًا أَبَدًا، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَا أَحُجَّ بَعْدَهَا أَبَدًا، ثُمَّ أَعْمِدُ إِلَى فَضْلِ قُوتِي، فَأَجْعَلُهُ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ، فَأَمْسِكُ عَنْهُ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ يَدُلُّ عَلَى اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ - وَإِنْ قُلْتُ - أَفْضَلُ مِنَ الْإِكْثَارِ مِنْ نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ، وَهَذَا نَفْلٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ،» لِأَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَالْعَمَلُ يَتَوَقَّفُ وَجُودُهُ عَلَى شُرُوطٍ وَأَسْبَابٍ، وَبَعْضُهَا قَدْ لَا يُسْتَطَاعُ، فَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، كَمَا قَيَّدَ اللَّهُ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِالِاسْتِطَاعَةِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (التَّغَابُنِ: 16) وَقَالَ فِي الْحَجِّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] (آلِ عِمْرَانَ: 97) . وَأَمَّا النَّهْيُ: فَالْمَطْلُوبُ عَدَمُهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ، فَالْمَقْصُودُ اسْتِمْرَارُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَهَذَا فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ، فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي قَدْ يَكُونُ قَوِيًّا، لَا صَبْرَ مَعَهُ لِلْعَبْدِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مَعَ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، فَيَحْتَاجُ الْكَفُّ عَنْهَا حِينَئِذٍ إِلَى مُجَاهَدَةٍ شَدِيدَةٍ،
رُبَّمَا كَانَتْ أَشَقَّ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ مُجَرَّدِ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا مِنْ يَجْتَهِدُ فَيَفْعَلُ الطَّاعَاتِ، وَلَا يَقْوَى عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَقَدْ سُئِلَ عُمَرُ عَنْ قَوْمٍ يَشْتَهُونَ الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا، فَقَالَ: أُولَئِكَ قَوْمٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ: يَقُولُ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: أَيُّهَا الشَّابُّ التَّارِكُ شَهْوَتَهُ، الْمُتَبَذِّلُ فِي شَبَابِهِ لِأَجْلِي، أَنْتَ عِنْدِي كَبَعْضِ مَلَائِكَتِي. وَقَالَ: مَا أَشَدَّ الشَّهْوَةَ فِي الْجَسَدِ، إِنَّهَا مِثْلُ حَرِيقِ النَّارِ، وَكَيْفَ يَنْجُو مِنْهَا الْحَصُورِيُّونَ؟ . وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَقَدْ أَسْقَطَ عَنْهُمْ كَثِيرًا مِنَ الْأَعْمَالِ بِمُجَرَّدِ الْمَشَقَّةِ رُخْصَةً عَلَيْهِمْ، وَرَحْمَةً لَهُمْ، وَأَمَّا الْمَنَاهِي، فَلَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ بِارْتِكَابِهَا بِقُوَّةِ الدَّاعِي وَالشَّهَوَاتِ، بَلْ كَلَّفَهُمْ تَرْكَهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَنَّ مَا أَبَاحَ أَنْ يُتَنَاوَلَ مِنَ الْمَطَاعِمِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَا تَبَقَى مَعَهُ الْحَيَاةُ، لَا لِأَجْلِ التَّلَذُّذِ وَالشَّهْوَةِ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ صِحَّةُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنَّ النَّهْيَ أَشَدُّ مِنَ الْأَمْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا» يَعْنِي: لَنْ تَقْدِرُوا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ كُلِّهَا.
وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ، قَالَ: «وَفَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَا أَوْ قَوْسٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِكَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا، وَلَنْ تَفْعَلُوا كُلَّ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا» " أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.

وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كُلِّهِ، وَقَدَرَ عَلَى بَعْضِهِ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْهُ، وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا الطَّهَارَةُ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى بَعْضِهَا، وَعَجَزَ عَنِ الْبَاقِي: إِمَّا لِعَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ لِمَرَضٍ فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّهُ يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَمِنْهَا الصَّلَاةُ، فَمَنْ عَجَزَ عَنْ فِعْلِ الْفَرِيضَةِ قَائِمًا صَلَّى قَاعِدًا، فَإِنْ عَجَزَ صَلَّى مُضْطَجِعًا، وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.» وَلَوْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَوْمَأَ بِطَرْفِهِ، وَصَلَّى بِنِيَّتِهِ، وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَمِنْهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِ صَاعٍ، لَزِمَهُ ذَلِكَ عَلَى
الصَّحِيحِ، فَأَمَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى صِيَامِ بَعْضِ النَّهَارِ دُونَ تَكْمِلَتِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّ صِيَامَ بَعْضِ الْيَوْمِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ قَدَرَ عَلَى عِتْقِ بَعْضِ رَقَبَةٍ فِي الْكَفَّارَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ، لَأَنَّ تَبْعِيضَ الْعِتْقِ غَيْرُ مَحْبُوبٍ لِلشَّارِعِ بَلْ يُؤْمَرُ بِتَكْمِيلِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ. وَأَمَّا مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فِي الْحَجِّ، فَهَلْ يَأْتِي بِمَا بَقِيَ مِنْهُ مِنَ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ أَمْ لَا؟ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَيَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، عَنْ أَحْمَدَ أَشْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، لِأَنَّ الْمَبِيتَ وَالرَّمْيَ مِنْ لَوَاحِقِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَبِذِكْرِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ لِمَنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَا يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ لَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ كَمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُعْتَمِرُ.


Tidak ada komentar:

Posting Komentar

MUHASABATUN NAFS.

KOREKSI DIRI DAN ISTIQAMAH SETELAH RAMADHAN. Apakah kita yakin bahwa amal kita pasti diterima..?, kita hanya bisa berharap semoga Allah mene...